لعلي أوفق -والحكم للقارئ- إن قلت أن بيتا تشيده الوعود يكون حتما كبيت العنكبوت، ومعلوم أن “أوهن البيوت لبيت العنكبوت”.
فالوعود إن لم تنفَذ يكون نصيب الموعود بها الخراب، ولنا في الكمون أسوة وقدوة وشاهد من أهلها، في المواعيد التي أخلفها بحقه السقاة، حتى غدا مضرب الأمثال والاستشهاد كقول أحدهم:
لا تجعلوني ككمون بمزرعة
إن فاته السقي يسقيه الذي خلقا
إن من بين الصور المعيبة والمشينة في العرف الإنساني والأخلاق والآداب العامة صورا، أضحت للأسف الشديد مألوفة لدى العراقيين، بعد أن استحالت الى طبائع وسلوكيات يتحلى بها أولو أمر البلد، تلك هي صور الإخلاف بالوعد، والنكث بالعهد، والحنث بالقسم.
ولو أردنا حصر الأشخاص الذين لازمتهم هذه الصور داخل إطار، لضاق بنا الإطار وانفلت من أيدينا الحصر والعد والحساب، فهم باتوا الأغلبية العظمى من رؤوس القيادة وجسدها وصولا الى الذنب، حتى يخيل للناظر أن المناصب السياسية ودرجات المسؤولية العليا، مشرعة حصرا للموارب والمواري والمرائي، فضلا عن المماطل والمسوف والمخادع، ومن غير هذه المؤهلات تبقى الوظائف القيادية شاغرة.
والغريب أن كل هذي السلوكيات تشترك في تحقيق هدف واحد، هو السرقة، والسرقة هنا تتعدد أشكالها وصورها، فالمواطن مسروق من جوانبه كلها، والبلد مسروق من مفاصله جميعها، وتأريخ العراق وإرثه الحضاري مسروق، وحاضره قيد السرقة، أما مستقبله فلا أظن السراق سيتركون فيه شيئا يستحق عناء السرقة، فقد أتوا على الجمل بما حمل. واللافت للنظر أن هؤلاء جميعهم يدركون شين مايفعلونه، لكن الإصرار على القيام به بات دينهم وديدنهم!
ولعلهم يرجون من بعد ولوغهم بما هم ماضون فيه، أن يغفر لهم من في السماء ومن في الأرض، إن عادوا الى رشدهم يوما، ويصلحون ما أفسدوه هم لاالدهر. يذكرني هذا برجل سئل يوما؛ ماأنت صانع في دينك؟ أجاب: أخرقه بالمعاصي وأرقعه بالاستغفار!.
إن ست عشرة سنة، ليست يسيرة على من يعيش أيامها ولياليها الحبلى بالمصائب والنوائب، وهي تلد له كل حين ما لاطاقة له بحمله، إذ تمر عليه السنة تلو الأخرى كما نقول: (بألف ياعلي)..!
فالخمسة وثلاثون مليون إنسان وأكثر قليلا، يرزحون طيلة هذه المدة تحت وطأة الظلم والجور والقمع وشظف العيش، وأظن المفردات الأربعة الأخيرات ليست جديدة على العراقيين، فهي ذاتها التي لازمتهم إبان حكم صدام، أما الذين أعقبوه في مسك زمام البلد، فقد زادوا الحال سوءًا، ووضعوا (فو الحمل تعلاوه).
فالظلم صار أضعافا مضاعفة، حتى غدا صفة لصيقة بالمنصب الحكومي والحزبي، وليس بمقدور من يعتليهما مجانبته أو أن يعف ويعدل، فحق عليه القول:
الظلم طبعك والعفاف تكلف
والطبع أقوى والتكلف أضعف
والجور أضحى خصلة تنمو وتزدهر طرديا مع تدرج المسؤول في وظيفته، فكلما توسعت رقعة الراعي ازداد تخليه عن رعيته، ونأى عن شرف المهنة، وصار شغله الشاغل مصلحته الخاصة والفئوية، رافعا شعار؛ (أنا ومن بعدي الطوفان).!
والقمع هو الآخر لم يفنَ بفناء صدام حسين، بل بات الشعار السائد، وصوته أعلى من باقي الأصوات، ونهجه فوق نهج الديمقراطية المزعومة. أما شظف العيش، فقد أضحى سمة وعنوانا يُعرف بهما أغلب العراقيين، إلا من فتحت له خزائن وأبواب معلومة، ليس أولها المشاريع الوهمية والصفقات المريبة، كما ليس آخرها السرقات بأفانينها ودهاليزها، حتى صارت ثروات البلد وخيراته تتوزع برمتها على نسبة ضئيلة من السكان، كسرقات مبطنة تحت مسميات قانونية او إدارية.
أما النسبة العظمى من السكان فنصيبها العوز والفاقة والبطالة، وهذا هو التهميش بعينه، وسعيد حظ من يسلم على ما كان يملكه من نزر يسير في بلده، قبل أن يستحوذ عليه السراق تحت غطاء المنصب او الجاه او النفوذ او الدين.