شدّني كثيراً ما قرأته أخيراً في مجلة (بيبول) الأميركية عن الحضور الذهني المتـَّقِد للكاتب والصحفي في ميدانه، وقدرته في العزف على الكلام بوسائل شتى حتى يبلغ غايته.. نشر صحفي أميركي مقالاً هاجم فيه بلا هوادة مجلس إدارة أحد الأندية الرياضية قائلاً إن ( نصفهم لصوص ).. فهاج أعضاء المجلس وماجوا وهددوا برفع دعوى قضائية على الكاتب إذا لم يعتذر علناً ويُصحح (خطأه) في العدد التالي!
وحدث ما أراده مجلس الإدارة المحتّج على اتهام نصف أعضائه باللصوصية، فكتب الصحفي قائلاً : نشرنا في العدد السابق أن نصف أعضاء مجلس الإدارة لصوص.. اعتذر أشد الاعتذار عن هذا الخطأ غير المقصود، ونؤكد أن نصف أعضاء المجلس ليسوا لصوصاً!
أعجب ما في الأمر بعد ذاك، أن مجلس الإدارة اعتبر هذا (التصحيح) اعتذاراً كافياً!
وفي يقيني إن المرء لا يشعر بجهله إلا عندما يشعر بأنه قد عجز عن أن يشرح أو ( يمرر ) وجهة نظره أو أن يدافع عن موقفه.
والأهم من هذا أن يقنع قرّاءه ومستمعيه بما يكتبه أو يقوله أو يؤمن به!
وفي الصحافة منطقة رمادية بين الأسود والأبيض.. بين الحقيقة والمبالغة تكمن فيها وتتجلى مهارة الصحفي الذي يريد ايصال فكرته أو رسالته حين يكون سيف الردع مسلطاً على رقبته أو فكره أو قلمه! لا أعني بالمنطقة الرمادية أن الصحفي يتخذ لبوس الكاتب المتردد المتخوّف الذي يتأرجح رأيه بين الضفتين، ولا أعني به ذلك الصحفي الذي تتوه فكرته في دهاليز الخشية من ردود الفعل فيتوه القارئ معه، وإنما أعني ذلك الصحفي المتمّكن من لغته والذي يستجيب لنداء قلبه وعقله وفكره وضميره ويوصل فكرته متعكزاً على ثقافته ورصيده من القراءات في كل مراحل عمره ومراحل تطوّره في المهنة.. فالثقافة العامة هي، كما يؤكد مشاهير القلم في كل زاوية من الدنيا، أول الأسلحة التي يخوض بها المرء الميدان الصحفي، وبدون الثقافة لا يمكن أن يخلق لنفسه قراءً وجمهوراً ولا أن يجيد في عمله الصحفي.. وإذا كانت الثقافة التخصّصية من صفات أصحاب المهن الراقية، فإنها بالنسبة للصحفي جواز المرور الأول الى عالم الكلمة، وبها فقط يقرر اتجاهاته ثم نصيبه من النجاح في عالم الصحافة.. فمن المؤكد أن الإلمام بأسرار الطب مطلوب من الطبيب، وعلى المهندس أن يبرع في فهم خبايا الهندسة، وعلى المحامي أن يوغل عميقاً في دراسة مرتكزات القانون ومثالبه وثغراته..
لكن الصحفي مطالب دوماً أن يلمّ بما يفعله أو يبرع فيه غيره من أرباب المهن الأخرى..
والوصية الذهبية هنا: إذا أردت أن تكون صحفياً فأقرأ .. أقرأ بكل ما لديك من مَلكة وقوة ورغبة.. أقرأ كل ما تصل إليه يداك من مؤلفات في مجالات حياتية شتى قد لا تجد - للوهلة الأولى - رابطاً بينها وبين ميدانك أو تخصّصك الصحفي!