قبل يومين، أخذتني قدماي أنا وصديق (معظماوي) الجذر والروح والطيبة، إلى أزقة (السفينة)، ولم تكن كل صورة فيها غريبة عن عيني أو ذاكرتي، فللأستاذ الكبير مؤيد البدري فضل لا يُجارى ولا يُبارى في معرفتي كل زاوية وناصية ودهليز في هذه الرقعة التي تطل على دجلة من أوسع زاوية ومشهد وعبق!
في أحد المقاهي الشعبية التي صمدت في وجه غوائل الزمن وزحف الحداثة والمدنية التي ندّعيها، كنت موضع الترحاب من بعض شباب المنطقة، أما شيوخها الذين انتبذوا مكانا في الظل بعيدا عن الصخب الدائر، فقد كان حديث الرياضة الذي أخذنا بالضرورة إلى الأستاذ البدري بوصفه نارا تتصدر علما، قد استدرجهم وزحف بكراسيهم البغدادية التقليدية نحو طاولتنا، وكان السؤال : كيف هي صحة البدري؟
والسؤال كان يجرّ سؤالا، ونبرة الحديث تعلو وتهبط.. سمعت روايات وحكايات لم تتطرق يوما إلى سمعي أو بصري، ولم يكن البدري نفسه قد أفاض أو أفضى بها حتى في تلك المقالات الاستذكارية الأسبوعية المنتظمة التي كان يكتبها خلال العقدين الثمانيني والتسعيني والتي كنت اتولى تسلم بعضها منه شخصيا سواء في مقر اتحاد الكرة العراقي، أو من بيته في الوزيرية قرب ملعب الكشافة، أو من بيت الأهل في السفينة ..
حكايات البدري على لسان أهل السفينة فيها الظرافة والطرافة، وفيها أسرار لذيذة تكشف المعدن (الشعبي) لأبي زيدون الذي كان يتبسّط في الحديث مع الشيوخ، وكان بخلقه وخجله الباديين يحجم عن الخوض في بعض التفاصيل على أعمدة الصحف!
الحديث في المقهى كان يجري بتدفق، وكذلك عقارب الزمن.. لم التفت إلى ساعتي إلا بعد ثلاث ساعات من الحوار المفتوح مع المتبقي من الجيرة الطيبة التي كان ينعم بها البدري وكان يلجأ إليها كلما ضاقت به صروف الدهر الخؤون! وفجأة، أطل وافد جديد إلى ساحة الحوار في المقهى، ولم يكد يتخذ كرسيه بيننا حتى قال متسائلا: لماذا لا يحظى الاستاذ البدري بتكريم منطقته السفينة؟! كان سؤالا يسكب الماء المثلج على حواراتنا الساخنة .. لقد عطـّـلها أو أطفأها تماما، وأضرم على الفور نارا في مكان آخر! صحيح! لماذا لا يُكرّم البدري في عراقه الكبير، مدينته العظيمة بغداد، منطقته الأثيرة الأعظمية، وفي قلب معقل الحب والصبا والجمال : السفينة؟! قلت للوافد المُعتـّق، دعنا نعيد الكرّة من جديد .. في عام 2005 كتبت مقترحا عن إقامة تمثال مهيب يليق بالبدري في مكان بارز في العاصمة بغداد، واليوم سيذهب القصد باتجاه منطقة السفينة حصرا، وهذا ليس استلابا لنصيب سائر العراقيين في نجمهم البدري، وإنما هو تكريس لصورة البدري وهو يتوهج طفولة وصبا ثم ظهورا على المسرح الرياضي والاجتماعي انطلاقا من هذه المدينة!
البدري كان طوال نصف قرن مثالا يحتذى على الشاشة وفي أروقة العمل الإداري الرياضي وفي الفضاء الأكاديمي، وفي دوائر صنع القرار الكروي عراقيا وآسيويا وعالميا ..
فهل سنبخل على هذا (المثال) بـ (تمثال) يحكي مشواره الثري وقلبه مازال حيّا فقط لأنه ينبض بالعراق؟