أصبحت الكرة شغلا شاغلا لبني البشر .. تدفعهم دفعا إلى تتبع أخبارها بنهم غريب وإدمان عجيب ، كما لو أن اهتماما آخر لا يشغلهم في عالم الأزمات .. والمتغيرات!
وبين هذا الانشغال المجنون بنجوم المونديال الجديد وفراس الرهان فيه، يبرز اتجاه آخر يطالب بالقضاء على احتكار كرة القدم للأحداث، وسيطرتها على العقول، وانفلات مبارياتها عن المسارات الطبيعية..
باختصار القضاء على اتجاه الناس نحو الكرة لأنهم بها يريدون تناسي ما يدور حولهم، وهو أهم وأخطر!
حدث بقيمة كاس العالم ، تتسابق من أجله أمم الأرض كل أربع سنوات، دليل واضح على اتساع قاعدة الكرة وانتزاعها مواقع اهتمامات أخرى كانت قبل نصف قرن وأكثر تحظى بمشاعر الناس وأوقاتهم .. وهو الأساس الذي ستنطلق منه الكرة إلى بناء علاقات جديدة لا يعرف العالم كيف ستكون.. ولعل هذا التكهن بما ستؤول إليه الأمور هو الذي يجعل كثيرا من الدول تخصص رعاية لأبطالها الكرويين لا يمكن أن توصف!
العالم الذي يعيش على كرة أرضية يريد أن يؤكد تقدمه الحضاري بكرة جلدية ، وإلا فما معنى أن تظل أنظار الدنيا كلها مُعلـّقة نحو حدث أمده شهر في كل 48 شهرا؟
وما معنى أن يدفع أرباب المهنة من تجارها وسماسرتها والمتنفذين فيها أشخاصا وشركات ودولا، المليارات للأقدام الكروية الساحرة التي تتلاعب بالكرة والعواطف معا؟
وما معنى أن يشعل هدف واحد في تصفيات كاس العالم حربا ضروسا بين دولتين متجاورتين وهو ما حصل بين هندوراس والسلفادور قبل 49 سنة؟
وما معنى أن تجد انكلترا نفسها طائعة مطيعة راضخة للأمر الواقع لتنضم إلى قافلة اللاعبين في المونديال عام 1950 بعد أن كانت تدعو إلى مقاطعة البطولة لمجرد أن الحدث بنسخته الأولى لم ينبثق من تحت معطفها عام 1930؟!
الخميس موعد ليس كمثله موعد .. كل الاهتمامات غير كرة القدم ستكون في سُبات أو في حكم الحبس الاضطراري ، فيتخلى العالم عن لغاته الحيّة ولا ينطق إلا بلسان الكرة ، ويبدأ بذلك طقوسا خاصة في خضم التنافس الكروي المثير والأثير في المونديال!
الآن .. الكلمة للكرة .. لنجومها .. لأقطابها .. للأمل فيها .. لحساب النقطة والهدف .. ونحن سنتخلى بود وتلقائية عن كثير من أحاديثنا، ولن تجد أحاديثنا إلا مكرّسة لكرة القدم والمواجهات التي ستجري على الأرض الروسية!
عالم مجنون؟!
بلا شك .. لكنه الجنون اللذيذ .. الأشياء ستكون عندنا (كروية) .. والأقدام ينبثق منها السحر .. والموازين مُدوّرة .. اللاعب المتألق سيعيش حقبة زهو قد لا يكتبها الله له بعد هذه المرة .. وغلطة الحكم تضع اسمه وسط (مانشيتات) فخمة تتصدر كبريات الصحف في العالم .. والهدف يكرس أمجاد الأمم، ويدفع عنها تكالب أزماتها الاقتصادية .. واليد التي ستحمل كاس العالم في الخامس عشر من تموز، تتمنى ملايين الأيدي أن تلتقط صورة معها! للكرة سطوة في كل يوم .. وفي شهر المونديال ستنثال مشاعر شتى .. لا يريد عالمنا أن يتخلص من حنظل الكرة إذا كان ممزوجا بالشهد.. فعنده أن طعم الشهد هو الذي سيبقى، وأن المرارة إلى زوال!!