في إحدى محطات السفر الطويل على ضفاف الخليج، استوقفني رجل في الستين من عمره، ولكن نظرات عينيه كانت توحي بثبات الذاكرة ورسوخها ..
لم يكن في حاجة إلى سؤالي عن هويتي، فقد كان وفدنا يحمل اسم العراق على الصدور .. ولم نكن في حاجة هو وأنا إلى وقت طويل لرفع الكلفة والمباشرة في أي كلام يدور حول العراق .. لكن سؤاله كان مباغتا لي: هل يمكن أن تتفضل وتصف لي حال ملعب الشعب الدولي في بغداد؟
ولأن السؤال كان مباغتا كما قلت، فقد كان لزاما علي أن أراجع اللهجة أو اللكنة التي طرح فيها (الشقيق) الخليجي سؤاله .. هل يريد أن يسخر من بقايا هذا الملعب وما فعل به الزمن أم أن لديه فكرة أخرى يريد أن يطرحها بعد أن استوعب أنا السؤال وأرد عليه؟!
لاحظ الرجل حيرتي بالفعل .. ففي داخلي كنت أخوض نزاعا بين أن يسخر أحد من أي رمز عراقي مهما عبثت به المقادير وبين أن استجيب للعبة السؤال وأرد بصدق كامل .. وانتشلني الرجل من حيرتي هذه وقال : تأخرتَ في الإجابة ، ولكن دعني أقصّ عليك حكايتي، وبعدها ستجد أن سؤالي منطقي وهو سؤال المحب المشتاق لمكان عزيز ..
ومضى الشقيق يسرد ما يتبقى في الذاكرة : قبل تسع وثلاثين سنة تزيد أو تنقص قليلا، كنت أحد أعضاء منتخب بلادي بألعاب القوى وهو يشارك في سباقات تقام في بغداد، وقد أخذونا من الفندق إلى الملعب، وهالنا ما رأينا هناك .. إنه ملعب كبير وجميل.. أقصد ملعب الشعب .. وكانت الفعالية التي اشتركت فيها
(1500) متر .. وبالنظر للتقدم العراقي الواضح في ذلك الوقت بألعاب القوى بالمقارنة مع المستويات الخليجية الأخرى، فقد كان همنا أن نتعلم لا أن نفوز .. وعلى سبيل المثال .. كنت متأخرا جدا في السباق وقد تمكن عداءان عراقيان من التفوق عليَّ بمقدار نصف لفة حول المضمار، ولم يكن همي إلا إكمال السباق ، أما المدرب فكان يطالبني بالانسحاب منعا للخزي والعار، وكنت أرفض .. وكان يهدد بالويل إذا لم انسحب، وكنت أرفض وأقول (والله ما انسحب .. هو في أحد يحلم يركض في ملعب الشعب؟ .. اليوم تحقق حلمي وما انسحب واللي تريد تسويّه سويّه)، فما كان من المدرب إلا أن ترك مكانه وقرر سحبي من الفانيلة وهو يعتذر للمنظمين عن سلوكه هذا!!
انتهت القصة التي رواها عداء خليجي قديم ، ورد فعلي المباشر على حكايته، الاعتذار منه لسوء ظني به في المرة الأولى .. فقد تصورت أنه يريد أن يسخر من أحوال العراق وملاعبه أو أنه أراد أن يفاخر بالملاعب الفخمة التي بناها أهل الخليج في السنوات الثلاثين الأخيرة!
اعتذرت منه وشكرته على سؤاله ، وقلت له : منذ عقود ونحن العراقيين نتطلع دوما إلى الأمام في الرياضة، ولكن لا أحد قد عثر على هذا (الأمام)! لقد جاءت الدنيا بأسرها من خلفنا ومن يميننا ومن يسارنا واجتازتنا وألقت علينا نظرات حسرة أو استخفاف أو تعجب ، ونحن مازلنا نبحث عن مكاننا في الأمام ..
هل وصلتك الفكرة يا صديقي؟!