كان عليّ أن اتماسك وأن أخفي ملامح الوجع والذهول والغضب. فأنا أقف أمام الكاميرا لألتقي عبر الشاشة ملايين المشاهدين، ناقلا إليهم نبض ما يجري في ملعب آل نهيان دبي، بينما كان محمد عامر العزاوي يربض بالقرب مني وقد حاول أن يسدل الستارة على وجهه وأن يجهش في البكاء، ولم تكن ستارته في هذا الموضع والحال إلا كاميرته التي اشتراها من حر ماله فصارت رصيده، ومصدر زرقه وإبداعه ، ثم تحولت في هذا الحدث المؤلم إلى حضن دافئ يهرب إليه العزاوي بدموعه ويختفي خلفه مغالبا الكثير من المشاعر المحبطة غير الدموع وغير الآهات!
كنت أرى الرجل وقد سكب الدموع كأنها الأنهار المتدفقة، ولم أكن أملك القدرة على مواساته، فقد كنت اتحدث عبر الربط المباشر مع استوديو المباراة، لكن قلبي كان يشاطره الدمع، شعورا بالخيبة من مآل المنتخب، وإشفاقا على وجع هذا المصور الذي امتزجت عدسته في خاتمة المطاف بالدموع ولم يكن عليه أن يمسحها من على وجه الشاشة، إنما استبقاها كشاهد على يد العبث التي امتدت لتقتل آمالنا الكروية الانسانية، مثل كل مرة.. كأنها تعبر عن وفائها المطلق للإخفاقات!
ولكني وبعد أن توقفت الدموع ولم تهدأ المشاعر في الملعب، كنت أجول في أرجاء الملعب مفتشا عن تلك العيون التي ذرفت دمعا لا يملك بعض لاعبي النكبة وكل المسؤولين عن كرة القدم العراقية القدرة على أن يذرفوه، فلقد اعتادت كرة القدم أن تكون مصدر الفخر والسمعة والعزوة الشخصية لهم، ولم يكن لهم يوما أي مشاعر تتعلق بالحزن الحقيقي حين يقع التعثر، إن لم نقل الكارثة.. فهم في الأصل سيتحركون في (همة) عالية لحصر الأضرار التي لحقت بهم، وسيسارعون إلى إلهاء الناس بالمشاهد الجانبية التي لا صلة لها بالسياق القاتل للأحداث على الميدان، من قبيل رواية بسام الراوي وغيرها من المشاهد التي تحولت بالفعل إلى وسائل لتبرئة المتسبب الحقيقي في هذه الكارثة!
كنت أجول في الملعب، والقي نظرة فاحصة على المدرجات، وأجد عوائل كريمة محترمة أعرفها جيدا وأدرك حجم انتمائها إلى العراق وقد انخرطت في مآتم حقيقية لم ترصدها الكاميرات ولم يأت بها التلفزيون إلى بيوت الناس في كل مكان.. كنت أرى فيهم ألف محمد عامر العزاوي، وكنت أدرك أن ما أصاب المصور العراقي النبيل قد أصابهم وأكثر، فالعزاوي قد يدرك لاحقا أن الكرة فوز وخسارة، وأنها هدف واحد يحسم موقعة، وأنه لا بدّ في النهاية من منتخب يستمر في البطولة وآخر مودعها مهما يكن حجمه أو مهما تكن قدراته أو آماله..
لكن تلك العوائل لم تكن تعرف من تلك المباراة غير مفردة سامية واحدة.. (الـعـراق).. ولم يكن يدر في خلد أي فرد فيها أن المباراة ستتحول من كرة القدم إلى مغالبة الدموع، ومن الهدف الذي يصيب الشباك إلى الرمية التي تصيب الفؤاد!
غابت شمس الكرة العراقية في نتاج الرحلة على ملاعب الشارقة ودبي وأبوظبي.. غابت بفعل فاعل معروف لنا، لن تزيده الإخفاقة إلا رسوخا في مكانه فيما تهتز مشاعر الناس وتخرج عن سياق الكرة إلى الوجع الوطني الشامل.. لكن ما لن يغيب عن عيني وفكري وقلبي بعد اليوم أن العراقي متصل حقيقي بوطنه، مرتبط صميمي بأرضه حتى لو أخذته الدنيا واشتطت به إلى بعد نقطة على وجه الأرض!
رأيت في ملعب آل نهيان مغتربين ومهاجرين ومقيمين في دنيا الله، هم أشد ارتباطا بالبلد ممن تسببوا في نكبتنا الكروية، وممن ألحقوا الأذى، وأي أذى، بسمعة البلد الذي يتبجحون بالانتماء إليه!