واضح تماما أن أكثر الفنون التي نجيدها، في عصرنا هذا، فن الإجهاز على الإنجازات، بعد محاصرتها، والتشنيع بها، ومحاولة وضعها في المستقر المزمن وهو ماكينة الإتلاف، من دون أن نتحسّب لحكم التاريخ، أو – بمعنى أصح – لجهلنا المستديم بما تعنيه كلمة.. تاريخ!
حرصت خلال أسبوع من الآن على متابعة القنوات الرياضية العربية للدول المشاركة في بطولة غربي آسيا بنسختها التاسعة، ورأيت أمرين في غاية الأهمية برغم التباعد بينهما.. الأول أن الأشقاء قد أزالوا تماما عن أذهانهم أن العراق أرض تعني الإرهاب والقتل على الهوية أو حتى على المجهول.. وبدلا من ذلك صار في إمكان أي منتخب في هذه الدنيا أن يأتي إلى المدن العراقية كي يخوض مباراة في كرة القدم من دون أن يتعرض إلى الوعيد أو التهديد!
وفي هذه النقطة بالذات وجدت علامات الارتياح بادية على الوجوه.. فلقد تأكدوا من حقيقة أن العراق قادر على استضافة المباريات والبطولات على هذا النحو بعد أن غابت البطولات التجمعية الكبرى عنه منذ ثلاثين سنة، إذ كانت آخر بطولة مقاربة أو على هذا النحو نظمها العراق هي بطولة كاس فلسطين للشباب بمشاركة عربية واسعة توزعت على مدن عراقية ولم يقتصر اللعب في بغداد التي كانت ترفل بالأمان في ذلك الوقت، وأنا اتحدث عن عام 1989.
أما الأمر الثاني الذي أحرجني كثيرا وأنا أتابع ما يقوله الأشقاء عبر فضائياتهم، فهو استغرابهم لكل هذه الضجة التي أثيرت حول حفل الافتتاح.. ففي رأيهم – ورأينا أيضا – أن كل شيء في الملعب سار على ما يرام وأن البساطة المقترنة بالحرفية من دون تعقيد واستطالة كانت سمة الحفل، حتى لو كان المنظمون قد استعانوا بجهة خارجية لتنفيذ فقرات الحفل، فلقد اعتدنا على مثل هذا (التكليف) حتى في الدورات الأولمبية..
تخيّلوا أن اليونان بعراقتها الفنية والأولمبية استعانت بشركة استرالية للإشراف على كل تفاصيل حفل افتتاح الدورة الأولمبية في أثينا عام 2004، وقد التقيت ديفيد اتكينز مدير الشركة الأسترالية في الدوحة وعملنا معا لشهور عديدة قبل حفل افتتاح الدورة الآسيوية في الدوحة عام 2006، فلقد انتقل هو وكوادره إلى الدوحة، بعد أثينا، لكي يحقق مثل هذا الاتقان والإبهار في فنون حفلات الافتتاح!
أقول إن أشقاءنا استغربوا أن تثار هذه الضجة بعد نجاح حفل الافتتاح في كربلاء تحت تفسيرات وتأويلات وحجج لم يكن هذا الحدث الرياضي ليحتملها، لأن أيا من المشرفين والمنظمين والمنفذين لم يفكر مجرد التفكير في الإساءة من قريب أو بعيد إلى مدينة كربلاء المقدسة، بل كان كل الاتجاه ينصبّ حول إظهار العراق ككل على أنه بلد يعيش مثلما تعيش الإنسانية من حولنا!
والنتيجة ، وبدليل ما عشناه خلال الأيام الماضية من حروب على وسائل التواصل الاجتماعي وفي دهاليز السياسة والإعلام، أننا فقدنا بوصلة النجاح أو الفرح بالنجاح والمفاخرة به أمام العالم أجمع.. العالم الذي عرف العراق مهدا للحضارة والعراقة والريادة في الفكر والأدب والفن، ولم يعرف عنه كل هذا التردّي في التفسير.. وهو ما أهدر بالفعل حقنا في السعادة بأننا عدنا إلى جادة التنظيم الكروي، وأن حفل الافتتاح ووجود كل هذا العدد من المنتخبات العربية الآسيوية سيفتح لنا ألف باب وباب لاستكمال مشروع رفع الحظر عن كامل ملاعب العراق!
بدلا من مفاخرة الدنيا بأننا عدنا، أمسكنا بـ (المنجز) العراقي لكي نمارس عليه (الفــن) المعهود وهو التشهير والتسقيط والضرب في الصميم، قبل أن تتحرك ماكينة إتلاف الإنجازات.. إنجازاتنا المحدودة المعدودة التي لا نحسن الاحتفاظ بها!!