عزف على اللون منذ نعومة أحلامه قصائد من جلّنار الشام، حين فتح عينيه على بستان جدته، كانت تعجُّ بالتفاح والرمان والزيزفون حين عزف سمفونياته اللونية عليها فكان الـ "جلنار" يصدح من لوحاته مثل قصيدة شعرية تجسد روح الحياة في التشكيل البنائي للون فتجعل المتلقي أمام سمفونية تملأ الفضاء بإيقاعها وتراتيلها يفوح منها رائحة الارض التي عشعشت في ذاكرته طوال عقود من الزمن، لأن عمر الذاكرة ارتبطت بالتأمل الروحي على مساحة لونية لا حدود لها، صقلتها الثقافة التشكيلية، لتخرج أعمالا تحمل فلسفة إنسانية بأسلوب انطباعي تشكلت عبر فضاءات رحبة أرخت بظلالها اللونية على أعماله.
نذير نبعة كان لصدى رحيلك لون الـ "جلنار" في عيون سيدات الشام، بعدما رسمتَ أناقتهنَّ بمهارة حرفية، وألبستهنَّ أجمل الألوان لخلق هارموني لوني بحس إبداعي واقعي، وبتداخل جمالي في البناء التشكيلي، حين تتداخل الألوان بانسيابية تأخذها أناملك على سطح اللوحة لتخرج متكاملة، مزركشة ومزينة بجميع التفاصيل.
ليست وحدها هي التفاصيل الدقيقة التي كانت تتسم بها اللوحة، وتشرق من بين ثناياها، بل الروح التي تتمنطق بالجمال حين تمر الذائقة البصرية فتقرأ الحركة، وما يجول في النفس، وما تقدمه العين من روايات إنسانية مختلفة، من حزن وفرح، وحلم ورؤى.
نذير نبعة أيقونة قرمزية من زمن الجمال الشامي حين صبغ ملابس نسائه كلها بلون الـ "الجلنار" زهر الرمان الذي كان يتفتح في الربيع، ويفتح معها شهية الفنان التشكيلي نذير نبعة على الفن والإبداع، وصياغة الجمال حين يجعله يسرح في فضاءات سحرية منفتحة على تأويل الأحاديث.
تراكمات في الذاكرة الطفولية حملتها الأيام وصاغتها بأجمل الألوان أنامل فنان تشكيلي على مساحة مدروسة ومتزنة اهتمت بتركيب اللون، وعزفت ببلاغته الجمالية والبصرية دلالات لمجتمع يعجُّ بالثقافة التاريخية والفلسفية والتراثية، تفوح منه رائحة الحضارة الإنسانية، متناغمة مع الحاضر، تجمع بين الأصالة والمعاصرة، مؤكدة على دلالات وظيفية للفن التشكيلي في إيصال العمق الفلسفي للعمل الفني ومدى تأثيره على المتلقي.
نذير نبعة كيف أعطيك حقك الفني والإنساني أيها الفنان الرائع، والأستاذ العظيم، حين تنطلق توجيهاتك بلغة تحدوها الثقافة والعلم والمعرفة مازال صوتها يرنُّ في داخلي، وصهيل الإنسانية يمر على مفاصل الروح لتضع بصمتها بألوان قرمزية تهل من العين على فراق إنسان عظيم يحمل في روحه ثقافات متنوعة ومختلفة.
وفي ذاكرته زهرة الرمان الحمراء التي تتفتح في الربيع معلنة قدوم الصيف في حدائق البيوت القديمة والحارات والبساتين الشامية، لاعتبارها من أكثر الأشجار الجميلة، كونها تضفي نوعاً من الحياة والدفء في البيوت الخارجة للتو من فصل الشتاء، مستقبلة الربيع، أما ثمارها وعطائها الدائم يذكرنا بديمومة الحياة ودوران الأيام.
يا أيقونة الشام القرمزية نذير نبعة تركت إرثا جميلا لأجيال قادمة، وعلّمت أجيالا على مدى قرون من عمرك الطويل، شردَ فنك في أرواحنا، فاح عطره وتنقل بين الوريد والشريان، كان وجودك في كلية الفنون مثل نسمات البَليل حين تقطر على الجباه، وصوتك لا ينفك يهدل كالحمام بحروفك العصماء لترسو فنا تشكيليا في أعمالنا، وتنفتح جمالا كونيا واقعيا أو رمزيا على كل الفضاءات ننهل منها لارتواء.
يا أيقونة الشام القرمزية ترجلت عن فرسك لترحل إلى عالم آخر لم تخف منه بيوم من الأيام، كان لك فلسفة خاصة في الحياة الأخرى فسحة من بياض، وهدوء جميل، يا أيقونة الشام وصاحب أجمل الألوان، تركت في أرواحنا لمسة عطر حانية، وتفاصيل كبرت معك، تسعد برؤيتها وهي تطير على فساتين السيدات، منحتنا الحياة الدائمة، ومددتنا بالجمال من خلال دلالتك القيمة كأستاذ عظيم حين كنت تقف بيننا، تفوح رائحة اللون من عينيك، وتركض الفرشاة لتبدد بياض اللوحة بعمل انطباعي تعشقه كل نساء الشام.
رحلت يا أستاذنا العظيم، يا أيقونة الشام القرمزية، أيها الفارس، يا لوحة جميلة في أرواحنا، أيها الشارد على ضفاف نهر تلتقط منه ألوان الحياة، أيها الإنسان العظيم الذي ارتوت روحه جمالا من بستان جدته، ومن فن والدته وتطريز يديها.
نذير نبعة، أيقونة الشام القرمزية انتظر قليلا لترى الشام كما كنا طلابا في كلية الفنون الجميلة، من الزمن الجميل، رحمك الله وإلى جنان الخلد.