ملأتَ يدكَ بالضباب، واستكنتَ على ذرات التراب، أبيتَ أن تغادر زُمُرُّدة الفرات لأن جذورك ضاربة بعمق الأرض، وروحك سارحة على ضفاف الحضارات الإنسانية، تستمد منها ألق الحرف، لتسقيه عذبَ الفرات، وتنقِّيه من الأعشاب البرية، حين تشدو شاهرا لغتكَ بوجه الظلم والطغيان، وما تبقى منها شارد على الضفاف ليشتمَّ عطر الفرات الممزوج مع أوراق الغَرَب، يتفيأ بظلها الجميل لينتفض حرفكَ مثل رمح ثائر لا يهمه تهديد ولا وعيد.
روحكَ ملأت الزمان والمكان، وتفيأَ بحرفك القاصي والداني، وهذيان حرفكَ ملأ الكون في سمائه حين بدأ طوفان الدم يرتع هناك حتى امتد واصلا ما بين السماء والأرض، ولم تكن أيها البشير بيوم من الأيام ذرة متموجة ترتجف في دائرة الحياة بغير انتظام، بل كنتَ الدائرة تحت فيئ الصفصاف، وأن الحياة بأسرها تتحرك فيك بذرات منتظمة، دون أن يتجرأ ظلك فيعصيك.
يا ابن ديْر الزور ويا صفصافة الحياة، كنت تنشد حروفا في زمرُّدةِ الفرات لتنثرها في هذا الأفق البعيد علَّها تسلمك مقاليد السلام، بلغة متسمة بالسمو حين تفرد أشرعة البوح، وتُلَّقم دُفَّتَها الأشواق استعدادًا لمخاض قصيدة تعلن السلام وتنهي حرب الأيام العجاف مع كل نهار يفتح نوافذ الحياة، ويغلق شبابيك الموت.
لم تغادر الغَرَبَ لحنين يسمو فوق الحنين، تشدك حين تنضج ظلال الشمس، في كل نهار ترقب الحياة بسمو روحك التي ارتقت إلى السماء بكل شموخ، وصوتُ قلبك ما زال يعزفُ لحن الحياة، لأنك باق في القلوب أيها البشير، وعيناك ما زالت تجول في هذا الفرات الحاني ترقب ساعات الشوق كي تعيد ما فقدته من رفيقة درب تركتَ في عينيها عنوانكَ وصهيل روح.
وآخر ما كتبته أيها البشير قصيدة بعنوان:
"تغريبة الخاسر" لأم حنون، وقلب رؤوم
لـ هكذا حزن أسرجتني أمي
يا عكازَ وقتي الكفيف..
ويا مقاعدي على أرصفةِ التعبِ الطويل
هـا أنـا
أنا العاثرُ بجماجم اتزاني
الشاغرُ إلاّ منكِ
أبحث عن صرّةٍ لملمتِ فيها أوجهي التي انسربت
لملمتِ فيها براءتي، خسائري
أنا الذي قايض الطمأنينة بالهزائم.
بقيت هناك أيها البشير تنشد ذاتك الروحية على ضفاف الفرات مع ابنك إياس حالما بمدينة ساحرة خالية من قطع الرؤوس ومن دمار الحياة، أبيتَ الرحيل لأنك مؤمن بأن القادم شارد بظلاله على امتداد الروح، ليفرد الفرح تحت صفصافة الحياة، تشتم رائحة الأحباب، وتتلو ما تيسر من قصائد معطرة بعبق الفرات، فيتوه إياس بين أحلامك الوردية تارة، ويسرح بين حزنه الأبدي تارة أخرى.
لغاتُ عشقك متعددة مثل أوراق الصفصاف فكيف ينساها العالم طالما حفظها الفرات وسار بها على صفحته تترقرق على ماء عذب، لتصل مروية تستوطن الذاكرة ليبوحَ بها اللسان، صعبٌ محال أن ينساها، ملأتِ الدنيا وشغلتِ الناس.
لغاتُ عشقكَ متعددة أيها الشاعر الفراتي حين غرّدتَ لأنثى متفردة في العشق تدق في الروح.
"كم لغةٍ للعشق ستركض عاريةً..
تبتلُّ بفحواها.. وتشمِّسُ حبرَ رغائبها..
وتُمَرْغِلُ فوقَ رمالِ الأعناقِ..
الأعناقْ وكذا..
سيعضُّ كطفلٍ ثديَ الأرصفة..
ويلوِّثُ مريلةَ القلبِ بطين الأسرارْ..
ها قد أدمى كفَّيهِ سياجُ أنوثتها..
وعَوى خلفَ صِباهُ النَّاموسُ.. بَخٍ ..
مزهُوَّاً يتبخترُ بينَ شُجيراتِ المعنى..
ويجسُّ بأغصان اللهفةِ أطرافَ رِضاه...
ثمَّة من يدري أنَّ اللهفةَ بارودٌ تُشْعِلُهُ الأحداقْ...“
لم ترحل أيها الشاعر الفراتي بشير العاني، مازال حرفك يرنُّ على مسامع الحياة، لأن روحك مشتعلة حالمة تنثر شذى عطرها من حرف القصيد، لم يقتلوك بل قتلوا الجسد فيك، ولم يتجرؤوا على قتل الروح التي تعيش فينا، قصائدكَ، وحرف سموكَ مازال متعلقٌ في خصر السماء، فمن يصدق أنهم قطعوا رأسك ليقتلوا فينا الفكر والنور ويدخلون في جماجم ظلامهم وضلالهم، تبًا لهم وتب لا يعرفون من الإسلام شيئا، ولا يمتّون إلى تسامحه قيدَ أنملة، وضعوا لأنفسهم قانون مصكوك بشريعة الغاب لا يفرق بين نور وظلام، وبين فكر وتكفير، لأن الحقد الأسود أكل قلوبهم، والجريمة اعتقلت أرواحهم، هم مجرمون ووحوش بهيئة بشر، استعذبوا الدماء ولم يرتووا منها، حتى وصل شلالها إلى السماء.
أجل يا بشير العاني اتصلت دماؤك ما بين السماء والأرض ورسمت قوسَ قُزحٍ في سماء النقاء، لأنك ولدت من جديد حين ارتقت روحك هناك بين نوافذ المجرَّة، ودخلت الفردوس القائم هناك يا صفصافة دير الزور.
ولد محمد بشير العاني عام 1960 في محافظة دير الزور، وهو عضو في اتحاد الكتاب العرب في سورية، ومن أبرز شعراء المحافظة. حصل على شهادة بكالوريوس في الهندسة الزراعية، وله ثلاثة دواوين شعرية، أولها "رماد السيرة" 1993. مقطع القصيدة من جريدة السفير.