ربعُ قرنٍ ونيّف يا أمي وأنا أنصتُ إلى إيقاعاتِ قلبكِ اللامنسية التي كانت وما زالت تدقُّ على نبضاتِ الروح، في غربتي المهجورة كلما عسعسَ الليلُ، وتنفَّسَ فجرُ الصباح، علني أشتمُّ رائحة الفل والياسمين من بين يديك، المعطرتين بتراب الوطن، كنتِ تزرعين وتتعهدين بالسقاية كي يبقى الياسمين مزهرا بالحب بالمحبة، والفل يفوح بأرجاء الكون يعلن عشتار الخصب، والأمل للعطاء.
ربعُ قرنٍ ونيِّف يا أمي والليلُ يشهدُ على غربتي الصخرية، ويتنهدُ ألمها، حوَّلتها الحربُ القذرة، إلى غربةٍ قسريةٍ، وسكبَ الغريبُ خنجرَه المسموم فوق جراحِ قلبي، وطعنَ خاصرةَ زمني، ونكَّلَ بأصابعِ أيامي، واغتصب الأرض، اغتصب عشتار رمز الخصب والعطاء والجمال.
(كانت أغانينا تصدح بالموروث الشعبي في شهر آذار من كل عام حين يحلُّ "النوروز" ونغني "عا لعين يا أم الزلف زلفا يا موليا" إنها أم الزلف عشتار أيها السريان، وعشتروت أيها الفينيقيون والكنعانيون، كانت ترتدي عشتار ثوبها "الزلف" الموشى بالثمار والفاكهة وجميع أنواع الزهور في مثل هذا اليوم للاحتفال بعيد "النوروز" عيد الأرض السورية العظيمة والتي أنجبت العظماء فسميت عشتار بـ "أم الزلف").463
لأن "موليا" هي الخصب والوفرة والمياه الطبيعية للدلالة على مكانة عشتار وأهمية الأرض لدى السوريين ولا أحد ينازعهم عليها، ليصبح فيما بعد "عيد الأم".
أجل يا أمي خمسُ سنين عجاف والحربُ حرقت الأخضر واليابس وانطفأ عيد الربيع في كل أرجاء المعمورة، واختفتْ مظاهرُ الفرح، على ضفاف العاصي، وغابتِ الأهازيج الشعبية والموسيقى التقليدية عند السوريين التي كانت تمتزج مع أنين النواعير.
خمسُ سنين عجاف يا أمي ومغزلُ الحياةِ يدورُ، والحنين يتوق إلى لمسِ يديكِ الطاهرتين المرفوعتين بالدعاء لله عز وجل، وإلى احتضانهما كي أشمَّ عطر الياسمين ورائحة تراب وطني في عتمة الليالي التي امتلأت بالأفاعي والشياطين، وإلى أَلِفَةِ شوقهما حين كان يجثو الحزن على صدري، كانت الشفاهُ تلهج بذكر الله تقرأ ما تيسر تعويذة لروحي.
أنتِ يا أمي من علَّمني كيف أهزمَ الخوف بالدعاء، وكيف أصارعُ الوجع بالإيمان، وكيف أصلُ للنجاح، دعاؤك مازال متربصًا بروحي، وحبلي السري لم ينقطع بعد، وثمة جزء منك يسري في الشريان والوريد ممهور تحت عنوان حياة القلوب وعشتار الخصب.
يا أمي كلما هممتُ بالرحيل إلى لقياك تعثّرَ الدربُ، وخطفني الوجع، الذي ترك بصماته بجمر النار على جسدي، لأن ي عاشقة للوطن، والشوقُ شقَّ رئتي فَصَعُب التنفس من جديد إلا من عطرك الذي يزفرُ في سويعات الليل، وتخبئين ما زرعته يداك في النهار، وعلى صدى الريح تشتعل أغصان روحي بالحياة، وتتمدد بالضوء وتفوح بالأزهار.
يوم ودعتكِ يا أمي دخلتُ تابوتَ الفراق، لم أكن أدري أن ذاك التابوت سينال منه الزمن راسمًا ملامحه على وجهي، وعلى كل دربٍ حاكمني ببعدك، حين أرتكبُ معصية الشوق إليكِ، وأعاقر حبكِ في شوارع الأشواق المستحيلة، أمزجُ بينك وبين الأرض كلاكما أمي لأن الشوق إلى الوطن باهظٌ، وطريقه أصبح مزروع بالأشواك المخملية، عندما أصدرتِ الحرب حكمها عليَّ بتهمة التشرد بين أصقاع الأرض، وفي قارات العالم المجهول.
حين ودعتكِ يا أمي إلى منفايَ كنتُ مثلَ شرنقةٍ انفكتْ من محيطها وترجَّلت صهوة الفضاء وطارت إلى فضاءات العالم حاملة في جعبتها ذكريات وطن، وحياة القلوب، وعشتار الأرض، التي ما فتئت تسأل وباستمرار، تأخرتْ متى ستعود.
هل سأجرؤ يا أمي أن أمارسَ لعبة الحياة معكِ، لأعيد ما سرقه الزمن مني وألقاكِ على مدارج السالكين حيث سجادة صلاة ومسبحة عبادة؟
هل سأجرؤ يا أمي أن أعزفَ سمفونية فرح في حضرة أمهات الشهداء اللواتي فقدن أبناءهن دفاعًا عن الوطن وارتقوا إلى السماء بين فضائها الرحب حيث الفردوس الأعلى؟
هل يحقُّ لي يا أمي أن أهمسَ لكِ حياة القلوب أمامَ الثكالى ودمعةٌ على خدِ الزمن المقهور، لأبارك لكِ في عيدك؟
عندما أكلمك عبر الأثير وأنت بلغت من العمر عتيا، تسمعين صوتي بروحكِ، رغم الغياب عن الواقع، ترددين بصوت خافت حنون متى ستأتين؟
ويرتفعُ الهمس رويدًا من أنتِ؟
ترفعين النظر عبر الأثير تارةً تردين الصدى، ومرة أخرى يشيحُ نظركِ حيث المجهول، فينتابني شعورٌ بالندم لأنني فارقتك يا ست الحبايب، حين كنتِ تزرعين أجمل الياسمين وتراقبين تفتح زهرها، عندما يزيح الفجر غبش الليل، وينفقع الندى على الشفاه.
كنت تحرسين بصمت أغصانها الفتية، وتراعين تربتها لتبقى غنية بمائها، تضحكين لها في الصباح، وتغزلي من زهرها في المساء طوق الياسمين فيمتشق العطر جوانب المكان ليضجَّ بالحياة ويرعدَ أكثر عبقا عندما يستريح فوق صدري، تبتسمي وتهمسي بأن الماء سرح للجذور كي يروي العطش متغلغلا بين ذرات التراب.
أي يدٍ يا أمي ستجمع زهر الياسمين بعد يدك؟
وأي روحٍ ستزرعُ الياسمين بعد روحك؟
ومن سيهديني عقد الياسمين بعدك يا حياة القلوب، يا عشتار الخصب.
أرفع آيات المحبة والحب والتقدير لأمهات الشهداء والثكالى والمحرمين، وأعطر أيادي كل أم ربت ولم تلد، وكل أم سارت في درب لتحقق النجاح لغيرها، وكل أم حاملة راية النصر لسورية الحبيبة لـ عشتار الخصب مزركشة بزهر الياسمين، لك مني قبلات أطبعها على يديك الطاهرتين صباح مساء علَّ وعسى تردي عليّ الصوت يا حياة القلوب لنزرع أرض الوطن بالياسمين، بدل البارود ويعمَّ السلام.