إلياذةُ النورِ، سطعَ نجمها صباح الفصح المجيد، وأُعيدَ لها هيبتها بنصر مؤَّزر، بعد عام مؤلم من الوجع والصبر الطويل، عبرت الآلام ملكة الشرق واسترجعتْ مملكتها.
زنوبيا ضوءُ الحضارة وشعاعُ مجدها، وضوعُ العبير المشرق لقلبِ مهد الياسمين، سيدةُ الشرق سكنتِ القلوب بجمالها، ورقتها، وأرهبتِ الأعداء بشموخها وعزتها، وشدّةِ عزيمتها بالدفاع عن مملكتها العريقة التي حصَّنتها بالعدل، وتوَّجتها بالعطاء.
"الزباء" أو "زنوبيا" ملكة سريانية فاح عطرها عبر التاريخ، حكمت تدمر والشام والجزيرة وسُميت سيدة الشرق حين امتد سلطانها على سورية وآسيا هي التي قيل عنها في المدونات العربية بعد قرون من الزمن أنها بنت عمرو بن الظرب بن حسان ابن أذينة بن السميدع من أم إغريقية أي يونانية، وأبٍ عربي صرف.
بعد وفاة زوجها أذينة ملك تدمر وسيد الشرق، بَنَتْ زنوبيا مملكتها الشامخة أيام عصرها في وسط سورية وكانت امبراطورية تُحسب لها على مر التاريخ، لم تتهاون يوما مع عدوها، بل كانت الفارسة الشجاعة والمقدامة، إذا خرج زوجها للحرب أناب عنه الملكة "زنوبيا" لتحكم تدمر بذكائها ودهائها الخارق.
"زنوبيا" أقامت إرثا عظيما وسط سورية، وامتد عمقها الاستراتيجي إلى جميع الاتجاهات، وتركت حضارة يتكلم عنها القاصي والداني، ولم يصل إلى حضارتها أحد، يحط بها الزوار من جميع أنحاء العالم، ولولا الخيانة لما سقطت تدمر بيد الرومان آنذاك، لكن الزمن أعادَ نفسه، لتدخل اليد الآثمة بعد قرون عدة وتعيثُ فسادا بها، وتذبحُ وتنكّلُ وتضعُ لعنتها الإجرامية بقتل عالم الآثار العظيم الدكتور خالد الأسعد الذي حفظَ إرثَ زنوبيا لعقودٍ من الزمن، وحفظَ كل لغاتها وأبجدياتها، وكرَّسَ حياته للكشف عن آثار تدمر في العالم القديم.
الدكتور خالد الأسعد رجلٌ والرجال قليل، من التواضع والأخلاق ومحبة الآخر، أحبَّ وطنه وتفانى في مدينته مملكة الشرق، حضن كل قطعة تركتها زنوبيا، ومسح عنها ما علق الزمن عليه، بأنامله، لتبقى شاهدة يفوح منها عبق الحضارة، وصوته الذي صدح بلغات عدة من القديم إلى الحديث، حتى أتقن اللغة الآرامية "لغة سورية الطبيعية قبل آلاف السنين".
نصفُ قرنٍ ونيِّف والدكتور خالد الأسعد عاشق لكل إرث تركته زنوبيا والذي يحمل بين ثناياه الجمال، وبين مفرداته الروايات الإنسانية، كان ينشدُ قلبه في أذن الليل قيثارة الحضارة وصوت زنوبيا "مملكتي أمانة في عنقكَ" عاشَ تحت أقواسِها، وحارسًا أمينًا لمعابدها، وباحثًا في مفاصلها، ومؤلفًا مجلدات عنها تجاوز الأربعون مُؤَلفا، كانت تحكي عن الروائع من الاثار، وعن الأوابد تركتها سيدة الشرق زنوبيا، على كل عمود ترك بصمة من بصماته التاريخية، وفي كل معبد حفيف روحه التي فاضت إلى خالقها تحت أعمدة تدمر الشاهدة على حياته الحافلة بالإرث الثقافي، وعلى موته الموجع، انحنت الأوابد خجلا منه، وذرف الحجر دموعه، لأنه أرحم من قلوب قُدَّت من جمر النار. احتفت به كل البعثات الأثرية واعتبرته أحد أعمدة تدمر، حين استقبلها من مختلف بقاع أوربا وأمريكا، ونال العديد من الأوسمة، لكن يد الغدر لم تتركه يهنأ بسلام، بل رسمتْ همجيتها الإجرامية على جسده، وأعلنت عليه الذبح بطريقة بربرية، قطعتْ رأسه وصلبته على أعمدة تدمر بدمٍ بارد، فاح الألم وانتشرتِ الدماء على لهيب الإجرام وملأت ذرات الهواء بوفرة، حتى وصل عبق دمه إلى العالم بأثره، فانتفض ذاك العالم لكنه بقيا صامتا ينظر بعين مراقبة، هل سنعيد ما سرقته يد الغدر.
إذا كان الدكتور خالد السعد حمل الأمانة بصدق، ولم يخضع لطلباتهم وقدم جسده قربانًا لهم، عله يُطفئ عطشهم للدماء، ويبرِّد غلَّهم، فارتقتْ روحه للسماء شهيدًا عند ربه حيا يُرزق، فما كان من نسورنا أن يثأروا ببطولة خُطّت بدماء سورية.
نم قرير العين أيها الشهيد العظيم، والعالِم الجليل، قامت زنوبيا واستعادت ملكها، نم قرير العين يا حارس الحضارة وإرث الزباء، نم قرير العين أيها البطل يا حارس الإنسانية، فقد سكنتَ في القلوب الفتية، وشددتَ عزائمَ الشباب في قلبِ الموت، فصعدتْ روحك تشقُّ طريقها إلى السماء.
نم قرير العين بعدما بذرت المحبة والحب في تجوالك وترحالك لتعرِّف عن حضارة تدمر وإرث الزباء، استقطبتَ العالم لزيارتها، والتنقيب عن آثارها، حتى بلغَ السيلُ مداه، ولم يكتف بل امتدَّ حديثه عن مدينة تجارية تقع وسط سورية في بادية الشام حتى ملأ فضاءات الله، وعن حضارتها العظيمة التي تميزت بفخامة مبانيها ومعابدها التي نافست روما، وكانت محط قوافل التجارة قبل الميلاد، ومحطة تجارية هامة على طريق الحرير.
نم قرير العين أيها البطل الدكتور خالد الأسعد فقد ثأرت لك الأرض السورية برجالاتها الشجعان وقامت زنوبيا بيوم القيامة حقا قامت تدمر في يوم الفصح المجيد.
قامت الملكة زنوبيا ربة الحسن والجمال، ملكة الفروسية والصيد والقنص، تلوح العظمة على محياها، وسرعة البديهة في عيْنيها في أقصى درجات الذكاء، صوتها كان يشقُّ عنان السماء، قامت بقدِّها المياس، الابتسامة لا تفارق ثغرها لتبدو أسنانها البيضاء كاللؤلؤ المكنون فرحة بالنصر الأكيد.
قامت الملكة زنوبيا فانتفضتْ الحياة من مراقدها، وتصاعدَ عبقَ الخلود إلى السماوات السبع يلفُّ خصرها بقناديل النصر، ويزين شعرها بأكاليل الغار. فجرٌ أضاء العالم، وانشقَّ من بين الرماد، إلياذة الخلود قامت من وهج الحضارات الإنسانية، بعدما ارتفعتْ راية الحياة بعيونها الخضراء تبتسم على نواصي قلعة تدمر.
قامت وعبرت نحو الحياة للخلاص من الألم، حقا قامت زنوبيا في يوم الفصح المجيد بعد عبور درب الآلام، لتبارك لكل السوريين وتهمس، كل عام وأنتم بخير.
إنها زنوبيا "ملكة الشرق" أسطورة "تادمور" جمعت "زنوبيا" الثقافة اليونانية القديمة "الهيلينية" وأجادتِ الآرامية السريانية لغة الشرق وبعض اللاتينية "الرومانية" والقبطية وكانت على إحاطة بتاريخ المشرق والغرب وتقرأ لـ هوميروس وأفلاطون، وألَّفت مخطوطا عن تاريخ المشرق وآسيا.
سورية هللي بيوم القيامة وقولي لكل السوريين كل عام وأنتم بخير. فصح مجيد.. عبور للخلاص...أشرقت الأرض بنور ربها.