في صباحٍ فيروزي كان صوت فيروز ينسلُّ من بين ندى الفجر مع خيوط الشمس الأولى.. يا جبل اللي بعيد خلفك حبايبنا.. بتموج متل العيد و همك متعبنا.. اشتقنا عالمواعيد بكينا تعذبنا.. يا جبل اللي بعيد قول لحبايبنا.. بعدو الحبايب بيعدو بعدو الحبايب.. كنت حينها أطالع صندوق رسائلي لفتني فيديو لطفل من حلب لم يبلغ الحلم بعد، لكنه بلغ من الفكر ما يعجز الشباب عنه، وما يكنّه من الإيمان بالقضاء والقدر، كان صوته يروي الحكاية بلهجة حلبية محببة، وما يخفى في الصدور يحتضنه الهدوء المنتظر لقدر خطف أخته رفيقة دربه وباقي أسرته، لم يذرف الدمعة التي كانت تعشعش بين المآقي، واختار ابتسامة لعمر كامل تختزن براءة الأطفال، وما سرح من الأمل إيمان الكبار، وصبر القلوب التي في الصدور رابط الجأش، وهو يقول باللهجة الحلبية "حلب إلنا وليست لغيرنا" كررها ثلاث مرات حين كان يروي حكايته لأحد الإعلاميين، وما بقي في القلب شقيقته التي كانت تؤنس وحدته وما برئ من حبها، وما استمال من القدر لهو راض به، حين رفضت أن ترافقه لتجلس بقربه، وكأنها كانت قيد الموت بقذيفة شقت قلبها وما بقي من حب زرعه بين صمام قلبه، راضيا بقضاء الله عز وجل.
قال: بلهجته الحلبية رب العالمين كاتب لها أن تموت هنا لتذهب إلى الجنة، لتذهب لعند الله وليس الجنة لهؤلاء القتلة، تلك إرادة رب العالمين، وما بقي في سمائه من انتهى أجله، ومن بقي على قيد الحياة، هو الواحد الأحد يكتب من يغادر الحياة وما بقي على أرض حلب صامدون، رددها أكثر من مرة نحن صامدون أمام هؤلاء القتلة السفلة صامدون ولن نغادر حلب ـ حلب إلنا ـ إنه سوري حلبي، علمته الطفولة عشق الأرض، وزادت الحرب من اتحاده بها، ليبقى بين ثراها يشتمُّ رائحة جدائل أخته، وما عطّر الجسد من رائحة البنفسج.
وتتالت القذائف لتحصد الأخت تلو الأخت وهو الطفل الصامد بعد إصابته، وما بقي من جعبته إيمانه بالقدر الذي أراد له الحياة مصمما البقاء على ثراك يا حلب، وما تنسّم ريح أخته إلا من ثراك يا حلب، وعطر الباقون الذين رحلوا من أهله.
مرّت الفصول وتوالت السنين، وتقمصت الأرواح جسده النحيل الذي دفعه للصمود بوجه كل مجرم حمل السلاح ليقتل ويذبح، وما حمل السفاح من جرائم على أرض حلب التي كانت مقبرة الغزاة، وأرض الحب والمحبة والقدود الحلبية، وما عُرفَ عن أهل حلب وسكانها منذ أمدٍ بعيد جلَّ اهتمامهم بالموسيقى وفنونها، حتى احتلت مساحة كبيرة في حياة أهلها الذين ما طربوا يوما إلا للقدود الحلبية، وما سرح قلبهم إلا لكتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني حين أُهدي إلى أميرها سيف الدولة، وما خفي من الفيلسوف الفارابي كتابه الرائع "الموسيقى الكبير" كان أجمل حين قّدِمَ من "فاراب" صغيرا إلى بغداد وتعلم العربية والطب والفلسفة والمنطق والموسيقى، ثم رحل الى حلب وفيها كتب أكثر مؤلفاته في عهد الأمير سيف الدولة الحمداني الذي استضافه طيلة حياته واشتهر بحسن عزفه ومقدرته على التأثير في الناس وتوفي بدمشق سنة 905 م.
ولن ننسى خرجت من حلب ألوان متعددة من الموسيقى العربية بفضل الموسيقيين من الأساتذة الكبار في حلب.
وما سرح في القلوب الحب، وما أجمله حين ينسلُّ من شوارع حلب وقصائد المتنبي ناثرا أجمل أشعاره في حب خولة أخت سيف الدولة، كأي شاعر أنشد أشعار الحب، وما الغزل كان خافيا من الصعب البوح فيه كرجل عربي يتحلى بالشهامة فأنشد يقول:
كَتَمْتُ حُبّكِ حتى منكِ تكرمَةً
ثمّ اسْتَوَى فيهِ إسراري وإعْلاني
كأنّهُ زادَ حتى فَاضَ عَن جَسَدي
فصارَ سُقْمي بهِ في جِسْمِ كِتماني..
فمتى يعود لتلك المدينة الرابضة في الشمال ألقها وموسيقاها وعشقها وتاريخها لأن حلب لنا ولن نفرّط بها قيد أنملة، كما أكدّ ذاك الطفل إيمانا منه بالقضاء والقدر، وما القلب الصغير الذي يحمل طاقة إيجابية حمّلتني مسؤولية الحديث عنه حين ابتسمت كطفلة لروحه الجميلة وما ضمت بين ثناياها وأنا أردد حلب لنا وليست لغيرنا.