حين بدأتِ الشمس في لملمةِ أغصانها الوردية عند الغروب كانت خطواتي تتنقل على شواطئ البحر الأحمر، حيث الحوار كان عامرا بالنقاش عن عالم البحار مع ثلة من الشباب والفتيات، ذاك العالم الخالي من الحقد والدمار. عالمٌ عميقٌ بأسراره، وجميلٌ بألوانه، حتى أصبحَ الكل يعاقرُ حبه بالغوص في أعماقه ليلاً ونهاراً، ويمارسُ لغةَ العشق اللامحدود.
شردتُ قليلا من الحوار إلى عالم الأرضِ الذي امتلأ قتلا ودمارا وحقدا على مدار الست سنوات ونيّف، وكأن ذاكرتي سرحت بعيدا، وانطلقت إلى ذاك الوادي الذي كان ينهمرُ من جباله ماء الحياة فينعش قلوب العاشقين، فهمست بأذن الجداول السارحة من قمته حروف المحبة في عيد المحبة والسلام لتحملها مع المياه العذبة كي تسقي العطاش في وطن المؤمنين الذي قرعوا أجراس المحبة مرددين المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وفي الناس المسرة.
ولما انطلقت روحي من محبس الحوار إلى فضاء الخيال، عادت العربة تنهب الأرض بجسدي لأرى عتمة الليل، وكان صوتُ الموجِ يهدر في أذني لينقلني إلى عالمٍ فاقت فيه كل التجارب الدامية، بعدما كان مرسى للحب والعشق، وشواطئه عروشا للجمال.
طلبتُ من السائق أن يتمهَّل السرعة وكأنني على موعدٍ مع حورية الليل خرجت من شفاه الموج متخذة من الحلي والحلل أغصان الكروم تتدثَّرُ بها، وبعضا من شفاه الياسمين يزين شعرها الحالك بالسواد، وكأنها شعرت بروحي الحزينة والبعيدة آلاف الأميال عن وطن الياسمين، ولم أقرع أجراس الحياة مع من أحب في عيد المحبة.
اقتربت مني بقدها المياس، ونظرت إليَّ نظرة حنان، وكأنها سمعت صوت قلبي فهمست برفق اسمي المحبة، امتطيتُ صهوة الريح حين سمعت صرخةَ روحك وأتيتُ لأبلسم جراح غربتك.
قلت: كيف تتبلسم الجراح والوطن غارق في دمائه، والناس مشردة على قارعة الأرصفة.
قالت: ابسطي قلبك أمامي واملئيه نورا وحبا وعطريه بشفاه الياسمين فقد جمعتُ ضمات منه لأهديها لك في يوم الميلاد.
قلت: ما أجمل شفاه الياسمين حين يصل للقلوب فتعتمر بالقُبل.
انتابني صمتٌ طويل وسرقني النظر لسماء بعيدة تحمل لي بشارة فرح، لكنها قطعت صمتي وصوت أنفاسها ممتلئة برائحة الياسمين، وقليلٌ من حشرجة لحزنٍ لم يفارقها.
قالت: مرَّ عام بين حبٍ وحرب، بين جوعٍ وعطش، بين قتل ودمار، بين تشريد وتهجير، وقطع رؤوس، لكن الأمل مازال مزروعا كما كروم العنب في أرض السلام تجذّر ليسقينا رشفة نبيذ معتقة في يوم عيد الميلاد المجيد.
قلت: عام غرز أنيابه في قلوبنا، وشجَّ أفكار أحلامنا، وما بقي منه رحل مع أزيز الرصاص على شوارع الضياع.
قالت: عام سرقَ مني الوجد، وبلسم الحب، تركني لمرارة الحياة، وعتمة الليل، بانتظار عام جديد بلا عشق ولا ترياق يسقي روحي، ويروي جسد العشاق.
قال: ولدنا معا وسنبقى معا، يرقص الفرح من حبنا كلما امتلأتِ السماء بالنجوم، وما سرح على الطلول زجاجة كأنها كوكبٌ دريٌّ يوقد من شجرة مباركة.
قالت: بعض العالم انقسم إلى طوائف وعشائر والبعض الآخر هاجر إلى أصقاع الدنيا، وما بقي هو الحب الذي يجمعنا بمشكاةٍ في مصباح تضيء لنا الطريق.
قال: المصباح يلملم قُبُلَ الحب لأزرعها في صدرك همسا وأغنية كي تبقى وشما جميلا ترفرف فيه الحياة.
كان صوتها أشبه بمعول صدئ يشق أصداء الفضاء، ودموع غسلت وجهها، حتى تبللت تلك الحلي المتدثرة بها.
قالت: حين اخترقوا حياتنا في ليلة ظلماء، كالعجاج هبَّ من أرض قاحلة فذرِّوا الغبار في عيوننا، ليعمونا عن رؤية الحقائق، وأرعدت صوت القذائف في مفاصلنا، وما إن استووا على الأبواب حتى شقوها نصفين، لينتصبوا كوحوش كاسرة متعطشة للدماء.
كلماتها شقت قلبي كحد محراث وأرخت على روحي وجعا كبيرا، أي الكلمات تبلسم جراحها، أي العبارات تغسل ألمها، أي الحروف تواسي فقدها بحبيبها؟
لم أجد تعبيرا لها بنهاية عام امتلأ دماء وبعضا من حب، لم أجد ما أغزل لها من مشاعر الرثاء حرفا أو كلمة، خانتني الذاكرة برحيل العام، وربما أُصبتُ بالتوحد فهل نستقبل عاما يبلسم الجراح.
قطعت همسي وقالت بصوت يذرف دمعا بدم..
حلمتُ.. أنني أقَبِّله على قارعة الأحلام.. بين الأساطير السومرية.. وعلى أبواب الشام.. توجني بطوقِ الياسمين، وهمسَ سنلتقي بعيدًا عن الموت الزؤام.. حلمتُ.. أن أستوطنَ على مغارات صدره.. بعيدا عن صوت القنابل.. والرصاص.. قبلَ أن يصبحَ بين الجثث في يوم الزحام..
حلمتُ.. بضفاف قلبه تنتظرني.. بسمفونية حبٍ.. قبلَ أن يفارقَ العام.. ويقرع أجراس الحب والوئام.
وغطست في قاع البحر وهي تردد
عام رحل وعام هلَّ بين حب وحرب.