خمسُ سنين عجاف، ودماءُ الشهداء كللتْ حجارةُ البيوتِ المهدمة، وزينّت أزقتها بلونٍ طاهرٍ وردي، على مرأى ومسمعِ من العالم الذي مارسَ الصمت المقيت، ولغة الغياب عن الواقع طوال سنين موجعة، أشعلتْ قلوب الأمهات، وخطفت فلذات أكبادهن، وحرقتْ أدمغةً قدمتْ عمرها الطويل للوطن، ولم يأبه أحد لما يجري على الأرض السورية، غير التهديد والوعيد والتنديد، والألفاظ النابية التي هلّت من كل حدبٍ وصوب، وعلى لسان الصغير والكبير، حتى أصبحت تنفيسًا عن الذات، والتخوين الذي هبط مستعمرًا عقول البشر، من قِبل جميع الأطراف دون استثناء، والحقدُ الذي استوطن قلوبهم، ما عدا الطابور الخامس الذي صفّقَ للعدو الصهيوني "بقصد أو بدون قصد" لأن ثلة من الأغبياء ظهرت على السطح لتطرح مواويلها بعنجهية لا مثيل لها تحت عنوان "شكرا اسرائيل".
من يريد اسرائيل فليذهب إلى أراضيها لاجئا، بل معززا مكرما، تستقبله لغاية في نفس يعقوب كما استقبلت جرحى جبهة النصرة، وكما استقبلت جيش لحد منذ عواصف رعدية ونيّف، وبعد ذلك رمته كما يرمي الصقر جيفته.
الكيان الصهيوني لو يملك ذرة إنسانية واحدة لما شرّد الشعب الفلسطيني ونهبَ ثرواته، ودمر بيوته، واقتلع أشجار الزيتون والتفاح، ولما قتل أهل الموصل وحرقهم، وشرّد من بقي منهم وسرق أجمل ما عندهم، وسبى نساءهم، ردا على حرب بابل لأيام نبوخذ نصّر.
الكيان و"داعش" وجهان لعملة واحدة حين عاث فسادا في لؤلؤة الصحراء السورية، وقتل أروع إنسان في تاريخ البشرية، خالد الأسعد عالِم الآثار السوري، الذي شغل منصب المدير العام للآثار ومتاحف تدمر مُنذ عام 1963، وعمل مع عدة بعثات أثرية أمريكية وفرنسية وألمانية وإيطالية وغيرها خلال سنوات عمله الطويلة، ونالَ عِدة أوسمة محلية وأجنبية، وكان لسانه ناطقًا بعدة لغات، بالإضافة لإتقانه اللغة الآرامية "لغة سورية الطبيعية قبل آلاف السنيين" وله حوالي 40 مؤلفاً عن الآثار في تدمر وسوريا والعالم.
كانت وصمة عار في جبين الإنسانية قتل هذا العالم السوري وصلبه من قبل "داعش" المتسترة بالسواد وغدا ستكشف النقاب عن وجهها الصهيوني الغاشم، كانت وصمة عار أمام العالم الذي صمت عهرا ونطق كفرا.
لست بصدد الحديث عن الكيان الصهيوني لكن الحروف تجر بعضها لأصل إلى ما آلت إليه الحالة السورية من قتل وتشريد ونهب وسرقة وتجويع ونهايتها "التوطين".
"التوطين" التي أعلنت عنه أنجيلا دوروتيا ميركل السياسية الألمانية والمستشارة المخضرمة زعيمة الاتحاد الديمقراطي المسيحي وأحد أبرز الأحزاب السياسية في ألمانيا، وحسب مجلة فوربس تعد ميركل أقوى امرأة في العالم لعام 2011، وهي بذلك حازت على الصدارة في قائمة أقوى امرأة في العالم خلال الخمس سنوات الماضية.
- ما الذي أثار مشاعر المستشارة الألمانية لتنتفض بعد خمس سنوات وتعلن استقبال اللاجئين السوريين وغير الشرعيين، لتمنحهم الإقامة الدائمة ومن ثم الجنسية للتوطين الدائم؟؟؟؟
- هل أثار منظر الطفل آيلان حسها الإنساني؟؟؟؟؟
- أم لها مآرب أخرى تهش عليها أمنياتها.
الطفل آيلان التي جرفته الأمواج لمنطقة صخرية، فما كان من الإعلام الغربي إلا أن حمله ليلقيه على الشواطئ التركية وأصبح قضية رأي عام عالمية، تناقلت صورته كل وسائل الإعلام، وغصت الوسائط الاجتماعية به.
هناك آلاف الأطفال السوريين الذين قضوا نحبهم أمام أعين العالم في حرب على سورية، كانت ألمانيا جزء منها.
والسؤال الذي يطرح نفسه، لماذا لم تهتز مشاعر السيدة ميركل لمن قضوا نحبهم في بداية الأزمة تقطيعا وكان نهر العاصي قبرا لهم؟ لماذا لم تهتز أحاسيس السيدة ميركل لأطفال حمص العدية حين نُكِّل بهم وذُبحوا ذبح النعاج، بل وحُرقوا في الأفران في كل قرية ومدينة من المدن السورية.
- ألم تشاهد السيدة ميركل أطفال القبير المتفحمين في ريف حماة؟؟؟؟
- ألم ترى عينيها أطفال الحولة الذين قضوا في عطر السارين؟؟؟
- ألم ترى أطفال الغوطة الذين قضوا نحبهم في القذائف والصواريخ؟؟؟؟
- ألم يراعي اهتمامها أطفال الشام الذين خطفهم الموت مثل العصافير عندما هطلت عليهم أمطار السماء الحارقة؟؟؟؟
ولمدينة حلب قصة أخرى لا تنهي فصولها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، تشردت أطفالها بين ساحات تقسيم، وبناتها سبايا للسيد "داعش" أكبر منظمة صهيونية بالعالم مع حليفها أتاتورك، أطفال حلب ضاعوا لأكثر من عقدين بلا تعليم من بقي منهم؟
حلب المذبوحة من الوريد إلى الوريد، والمقهورة بعد أن غدت أطلالا على خد الزمن المر، حلب التي كانت مهوى الأفئدة لعقود زمنية طويلة، فيها اشتعل الشعر والموسيقى والرسم، والحب غنى أجمل القصائد على شرفاتها، والمتنبي أقام روحا، واحتفى جسدا بكل زاوية من زواياها.
حلب عزفت تغاريد الحمام، وصدح منها صوت اليمام، لأنها السرُّ المصان في أحلام الهوى، وشفاه الحسن بوجه العاشقين، فقد ابتليت برعاعٍ لا تفهم لغة الحب، ولا تعرف العزف عليه.
ما حصل في سورية من تشريد وتهجير ونزوح كارثة إنسانية لم يحصل مثلها منذ الحرب العالمية الثانية.
وما جرى سيشهد عليه التاريخ لشباب ضاع بين بحر ابتلعه، وبين سجون الغرب، وما تبقى منهم لاجئين عند السيدة ميركل لتمنَّ عليهم بالجواز الألماني بعد أن تستنزف عقولهم وقدراتهم ومهاراتهم.
هي هجرة للتوطين، وليست للجوء الإنساني لبلاد الغرب التي شنَّت حربا قذرة على سورية بمساعدة أتاتورك الألفية الثالثة من عصر انتفت منه كل معاني الإنسانية، ولا تعرف إلا لغة الذبح متعالية منها "الله أكبر" "والله ورسوله بريء مما يفعل الظالمون".
تلك الهجرة أعادتني لأيام أخوتنا الفلسطينيين حين قالوا لهم غدا ستعودون إلى بيوتكم، تلك الهجرة رسمت أمامي ملامح المستقبل لأطفال سوريين بلا هوية ولا جذور، وشباب بين ذكرى الوجع، وألم المسير في طرق مجهولة، وحدود ملغومة بالوحشية، والأسلاك الشائكة، وخير دليل على ذلك المصورة المجرية Petra Laszlo التي أبدت اعتزازها في حسابها "التويتري" بركلتها للمهاجر السوري أسامة الغضب، الهارب من مدينة دير الزور الذي احتلها داعش بعدما كان مدربا في "نادي الفتوة" السوري لكرة القدم، بيترا الصحفية المتطرفة لمحته ناجيا بنفسه وطفله من الشرطة، ركلته، فتدحرج واقعا على الأرض فوق ابنه الصغير، كما ركلت بقدمها طفلة سورية أيضا، وهي تحاول اختراق الطوق الأمني مع أهلها، الذي فرضته شرطة المجر قرب حدودها مع صربيا، إنها الهجرة إلى الغرب للتوطين.