رنينُ الهاتف لم ينقطعْ وأنا منغمسةٌ في عملي الصحفي، وألفُ رسالةٍ ورسالة وصلتني على وسائلِ التواصل الاجتماعي ليلاً، ومما زادَ الطين بلة جرسُ الباب صباحا باكرًا، فمن صاحب الحظ السعيد الذي سأردُّ عليه باقتضاب لكن الطبع غلبَ التطبُّع، لم أتعودْ الرد إلا ببشاشةٍ علّ وعسى أن يكون الطارق باكرًا حاملاً معه كل الخير.
فتحتُ البابُ فتصدرتْ إحدى الصديقات معاتبة كوني لم أردْ على هاتفها ليلاً كبقية الأصدقاء، فابتسمتُ وسلَّمتُ ببشاشة.
قالت: من سرقكِ تلك الليلة من نقاشنا المسائي؟
قلت: توضأتُ بماءِ عينيه، وفي غارِ قلبي المتلف أقمتُ صلاةَ ليلي، عسى الأمر خيرًا!!!
قالت: القلوبُ حين تعشق، العيونُ تقرأ ما بداخلها، ولن أجدَ نورًا مشرقًا من عينيك!!!
قلت: تركتُ روحي تسبحُ في فضاءات عشقه التي لا تنتهي.
قالت: دعي الفلسفة جانبًا فأنا محتاجة لاستفسار؟
قلت: ما الأمر الجللْ الذي دعاك لتكوني زائرة الصباح الباكر؟
قالت: أنت، وجلالة كتبك التي تهديني إياها لأقرأ.
قلت: طلبت مني أن تعرفي أكثر عن سيدة العواصم وفقه التسامح، فأهديتك كتابا للشاعر السوري نزار قباني رحمه الله، وبعده كتابا للشاعر العراقي مظفر النواب.
قالت: قرأت ولم أستوعب بعض السطور حين بدأ النواب رحمه الله
"إنها دمشق امرأةٌ بسبعة مستحيلات، وخمسةُ أسماء وعشرةُ ألقاب، مثوى ألفُ وليِّ ومدرسةُ عشرين نبي، وفكرةُ خمسة عشر إله خرافي لحضاراتٍ شنقتْ نفسها على أبوابها.
قلت: إنه صباح الفيروزي اسمعي إنها فيروز تتغزل بدمشق فتقول: وعليكِ عيني يا دمشقُ..
فمنك ينهمرُ الصباح...
هذا الصباح الذي أستقبله مع فنجان القهوة، ومعك يا صديقتي جميل أليس كذلك آآآآآآآآآآآآآآآآآآ على قهوتك يا شام ورائحة الهيل.
قالت: ما هذا الحب؟
قلت: إنه عشقٌ لوطن الجمال ودمشق لـ سيدة العواصم وفقه التسامح، ولها عدة نظريات في شرح معنى اسم دمشق، أوفرها انتشارًا كون اللفظة سامية قديمة بمعنى الأرض المسقية، ويعود ذلك لموقع المدينة الجغرافي في سهل خصيب يرويه نهر بردى وفروعه العديدة، مشكلاً بذلك غوطة دمشق؛ وأيضًا يتميز موقع المدينة بوجود جبل قاسيون فيها الشامخ.
وأطلق على مدينة دمشق عدة أسماء وألقاب على مر العصور, حيث ذكر الباحثان أحمد ايبش وقتيبة الشهابي في كتاب "معالم دمشق التاريخية"
من أسماء دمشق التي ذكرها الباحثان: "رأس بلاد آرام, كما وردت في العهد الآرامي القديم، ومدينة نعمان الأبرص الآرامي، وبيت رمون نسبة إلى هيكلها الذي يُنسب إلى رمون اللودي، وعين الشرق كما أسماها الإمبراطور الروماني يوليانوس، والشام الاسم المرادف لدمشق على مر العصور.
قالت: كم تمنيت أن أعرفها قبل أن أقرأ عنها، لأغوص أكثر بين حناياها تلك الحسناء الجميلة، وماذا عن ألقابها.
قلت: من ألقابها كما أورد الباحثان: " قرية المسرة في العهد الآرامي، مدينة ألعازر خادم النبي إبراهيم، جلَّق، جيرون أو حصن جيرون، ديمترياس اسم الجالية اليونانية التي لحقت بالمدينة، المجوفة في العهد الروماني، دمشق الشام تميزا لها عن غرناطة الأندلسية المسماة دمشق الغرب، حاضرة الروم وبيت ملكها في العصر الجاهلي، ولقبت بـ الغناء لخضرتها والتفاف غوطتها بالأشجار، والعذراء نسبة إلى مريم العذراء البتول السلام على اسمها، والفيحاء واحدة من أشهر ألقاب دمشق أطلق عليها لسعة سهلها وفساحتها.
قالت: سأدقُّ على نافذتي ألف مسمار ومسمار حتى لا يتمطى الليل بصلبه على جسدي، ويبحلق في روحي، ويردف أعجازه على خيباتي، وربما لمدينة دمشق أسماء وألقاب أخرى لا أعرفها.
قلت: من أسماء دمشق في صدر الإسلام "حصن الشام" وأطلقوا عليها فسطاط المسلمين أي موئلهم وملاذهم، ولقبها الأتراك بـ "شام شريف" تقديسا لها، وسًميت بذات العماد لكثرة أعمدتها، ولُقِّبت بـ جنة الأرض في عدة عصور، ولقِّبها عدد من المؤرخين والجغرافيين المسلمين بـ قصبة الشام.
قالت: كأنني أسمع عن مدينة تأتي في الحلم.
قلت: على بيادرها نبتَ العشق، وفي يوم حصاد سنابلها يعجُّ الشوق، وعلى صدرها ينام الياسمين، ومن شفاهها يقطر خمر الجنان.
قالت: في ثراها ضمَّت الأولياء والصالحين.
قلت: ابن عربي اختار دمشق، وسفح قاسيون بالذات، لينشر رسالته في الحب والمحبة والتسامح من المكان الأنسب برأيه في ذلك العصر، وضمه ثراها لذلك قال عنه النواب: "هو من لم تتسع له الأرض، حضنته دمشق تحت ثديها وألبسته حياً من أحيائها".
قالت: لكنه ليس دمشقيا.
قلت: ليس كمثل دمشق في التسامح، وليس كمثل دمشق في استيعابها لكل فكر، ولم أجد في تاريخ التسامح الديني في العالم عبارات توازي أبيات ابن عربي الخالدة، التي تعبر عن إيمانه بوحدة الأديان، أو دين الحب كما أسماه، يقول:
لقد كنت قبلاً منكراً كل صاحبٍ
إذا لم يكنْ ديني إلى دينه داني
وقد صارَ قلبي قابلاً كل ملةٍ
فمرعى لغزلانٍ ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف
وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت
ركائبه فالحب ديني وإيماني
قالت: حقيقي كما قال النواب: "إنها دمشق الأقدم، ملتقى الحلمُ ونهايته، بدايةُ الفتحِ وقوافله، شرودُ القصيدة ومصيدة الشعراء".
قلت: ياقوت الحموي قال: "ما وُصفت الجنّة بشيء، إلا وفي دمشق مثله".
ونزار قباني قال: دمشق كتب الله أن تكوني دمشقا، بكِ يبدأ وينتهي التكوينُ.
علّمينا فقه العروبة يا شامِ..
فأنتِ البيان والتبيين..
إن نهر التاريخ ينبع في الشام..
أيلغي التاريخ طرحٌ عجين؟