المرحلة الخامسة (1958 - 1974)
الحلقة الخامسة
يشار إلى أن النظام الملكي بالعراق كان شبه مدني، شبه علماني، مع وجود مظاهر واضحة للتمييز بين أتباع القوميات والديانات والمذاهب. ومع مرور الزمن فقد الكثير من طابعه المدني والديمقراطي الذي تميز به في الفترة الأولى من تأسيس الدولة العراقية وعلى وفق دستوره الديمقراطي. وتجلى ذلك في تشويهه للدستور وتزييف الانتخابات العامة وإصدار قوانين منافية للدستور وحرية الرأي والعقيدة والتنظيم والتظاهر والتجمع التي نص عليها.
كما حافظ على علاقات الإنتاج شبه الإقطاعية والتحالف غير المتكافئ مع الدولة البريطانية وممارسة سياسة غير حيادية بين المعسكرين ولاسيما في أعقاب الحرب العالمية الثانية. وكان الفقر شديداً والبطالة واسعة والسجون مليئة بالمناهضين لسياسات النظام الملكي وحكوماته المتعاقبة. وقد أدى ذلك إلى تحرك شعبي واسع مناهض للحكم الملكي وحكوماته وحصلت العديد من الوثبات والانتفاضات لاسيما في أعقاب الحرب العالمية الثانية، كما في أعوام 1948 و1952 و1956.
وقد حرك هذا الأحزاب السياسية العراقية التي شكلت جبهة الاتحاد الوطني، كما تحركت تنظيمات الضباط الأحرار لتعلن الانتفاضة على الملكية وإسقاطها في 14 تموز/يوليو 1958.
وقد اقترنت بالعنف النسبي حين قتل عدد من أفراد العائلة المالكة، منهم الملك الشاب فيصل الثاني وخاله الأمير عبد الإله بن علي الوصي على العرش وبعض الأميرات، الذي لم يكن في كل الأحوال ضرورياً، إذ كان بالإمكان نفيهم خارج الوطن. ولعبت المرارات السابقة والغضب والجهل وروح الانتقام البدائية دورها في ذلك.
أعلنت الجمهورية بالعراق واتخذت خطوات سياسية ديمقراطية عامة على الصعيدين الداخلي والدولي في أجواء احتفالية شعبية كبيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر ألغاء حلف بغداد، والخروج من منطقة الإسترليني، وإصدار قانون الإصلاح الزراعي الديمقراطي، وإقامة العلاقات الاقتصادية مع الاتحاد السوفييتي والعديد من الدول الديمقراطية الشعبية في أوروبا الشرقية، إضافة إلى إلغاء قانون إسقاط الجنسية ضد يهود العراق وتلك المادة التي كانت تشير إلى إسقاط الجنسية عن أي يهودي غادر العراق ولا يعود قبل نهاية ثلاثة شهور.
وإزاء من تبقى من يهود العراق أنهى النظام الجديد قانون إسقاط الجنسية لعام 1950 واتخذ إجراءات جديدة بما في ذلك السماح للطلبة اليهود بالدراسة في جامعة بغداد وفي المعاهد والكليات العراقية، والمشاركة في البعثات الدراسة في الخارج، وكذلك الحق في العمل في دوائر الدولة وفي النشاط الاقتصادي.
واعتبر اليهود إن الثورة جاءت لإبقاء من تبقى من اليهود بالعراق وعدم الهجرة، إذ كان من تبقى لا يرغب بالهجرة فعلاً، ومنهم الحاخام ساسون خضوري ومجموعة من الكتاب البارزين والمميزين أنور شاؤل وسليم بصون ومير بصري وغيرهم. والمؤسف حقاً أن عبد الكريم قاسم قد ارتكب خطأ بحق اليهود حين أصر على إقامة برج باسمه في موقع مقبرة اليهود ببغداد.
وقد أزيلت المقبرة فعلاً ولكن لم يبن البرج في مكانها إذ قد حصل الانقلاب ضد الجمهورية الأولي في 8 شباط/فبراير 1963. وكانت إساءة كبيرة ليهود العراق في موتاهم وقبورهم.
لقد عاش يهود العراق فترة طيبة في أعقاب الثورة، اطلق عليها اليهود بالعهد الذهبي الثاني، إشارة إلى العهد الذهبي الأول في الفترة الملكية الأولى وخاصة في فترة وجود فيصل الأول على رأس الدولة العراقية الحديثة، ولكنها لم تدم طويلاً، إذ جاء انقلاب البعثيين-القوميين ليطيح بحكومة عبد الكريم قاسم ويشن حملة شعواء ضد الشيوعيين والديمقراطيين والمستقلين المؤيدين لعبد الكريم قاسم، كما تعرض يهود العراق إلى حملة مماثلة من جانب الحكم الجديد الذي استحق التسمية بكونه نظاماً فاشياً دموياً.
المرحلة الخامسة (1963 - 1974)
الحلقة السادسة والأخيرة
في 8 شباط/فبراير 1963 وقع انقلاب عسكري قاده البعثيون والقوميون العرب الناصريون بدعم مباشر من أطراف دولية ثلاثة أساسيين هم:
- الولايات المتحدة الأمريكية
- بريطانيا
- إيران
إضافة إلى شركات النفط الاحتكارية التي ارعبها قاسم بإجراءاته النفطية وتشكيله منظمة الدول المصدرة للنفط، والسعودية وتركيا ودول الخليج العربي، ومن أطراف محلية حيث عقد التحالف السياسي بين القوى القومية والرجعية، ولاسيما قوى بقايا كبار الملاكين والكومبرادور التجاري والعقاريين، وكذلك الحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة الملا مصطفى البارزاني.
وتسلم البعثيون والقوميون السلطة ومارسوا مباشرة حمام دم رهيب ضد الشيوعيين والديمقراطيين وقادة ثورة 14 تموز، وفي مقدمتهم عبد الكريم قاسم، وقادة الحزب الشيوعي العراقي، وزح بعشرات الألاف من المناضلين في السجون والمعتقلات وفي قصر النهاية حيث فقد الكثير منهم تحت التعذيب الهمجي حياته. وتعرض اليهود في هذه الفترة القصيرة على المزيد من الأذى ايضاً.
وفي خريف العام 1963 حصل انقلاب قام به القوميون بقيادة عبد السلام محمد عارف ضد البعثيين وزج الكثير منهم في السجون.
استمر هذا النظام حتى العام 1968 حيث وقع انقلاب بعثي جديد ضد حكومة عبد الرحمن محمد عارف. ولكن في خلال فترة حكم البعث حصلت حرب الأيام الستة في العام 1967 بين الدول العربية وإسرائيل والتي خسر فيها العرب هذه الحرب أيضاً.
وقبل بدء الحرب وبعدها شنت حملات ظالمة ضد يهود العراق، سواء عبر الصحافة والتشكيك بوطنية اليهود وكونهم طابوراً خامساً لإسرائيل بالعراق، مما أدى إلى تحول حياتهم إلى جحيم لا يطاق.
ورغم ذلك بقي الكثير منهم صامداً راغباً في البقاء في وطنه الحبيب، العراق.وبعد انقلاب البعثيين الثاني بدأت مأساة جديدة لمن تبقى من يهود العراق.
فالنظام البعثي لم يكن مناهضاً للقوميين اليهود المتطرفين، أي الصهاينة، بل كان مناهضاً لليهود أينما كانوا.
ولهذا بدأ حكمه وبعد عام من وجوده في السلطة بتنظيم مجزرة رهيبة ضد 13 شخصاً من يهود العراق، تم إعدامهم وتعليقهم في ساحة التحرير ببغداد بتهمة التجسس لإسرائيل، وهم براء من هذه التهمة. وقد حشد البعث جماهير واسعة يصل عددهم إلى نصف مليون إنسان، منهم نسوة ليزغردوا فرحاً بارتكاب هذه الجريمة الجديدة. ثم كان قتل عائلة بكامل أعضائها، فيما عدا ثلاثة من أبناء العائلة كانوا خارج البيت، في العام 1973.
فقد جاء في كتاب البروفيسور ساسون سوميخ الموسوم "بغداد أمس" بهذا الصدد ما يلي:
"حدثت هذه المصيبة حين داهم جنود أو رجال شرطة بيتهم وذبحوهم ذبح النعاج، الوالدين وأولادهم الثلاثة الذين كانوا معهم في البيت، وقد نجا الأولاد الثلاثة الآخرون بأعجوبة". (ص 150). وقبل ذاك كان قد نفذ البعثيون أحكاماً بالإعدام ضد يهود عراقيين بتهمة العمل لإسرائيل، كما قتل الكثير من المسلمين بتهمة العمل لصالح الولايات المتحدة الأمريكية أو بريطانيا، وكل التهم كانت باطلة والأحكام ظالمة متعسفة.
" [أنظر: أ. د. ساسون سوميخ، بغداد أمس، ترجمة د. محمود عباسي (الكتاب بالأصل باللغتين العبرية والإنجليزية وترجم عن اللغة العبرية إلى العربية)، دار المشرق للترجمة والطباعة والنشر م. ض. – شفا عمرو/ إسرائيل، ص 150.]”.
وخلال الفترة الواقعة بين 1963-1975 تعرض يهود العراق إلى مضايقات وتجاوزات شديدة من جانب قوى الأمن العراقي وابتزاز مستمر وانتهاك فظ ومتواصل لحقق الإنسان، كما تم اعتقال الكثير من الأشخاص وقتلوا تحت التعذيب وأعلن عن كونهم هاربين من العراق، من بينهم بعض التجار الأغنياء لكي تتم السيطرة على أموالهم ونهبها!
وحين حصلت الاعدامات في العام 1969 ومن ثم حادث العائلة الجبان في العام 1973 من جانب أجهزة الأمن، والاعتقالات والقتل تحت التعذيب، قرر الكثير ممن بقى من يهود العراق مغادرة البلاد، إذ لم يكن قد بقي منهم سوى 3300 نسمة تقريباً، إذ أدرك هؤلاء بأن العراق لم يعد آمناً لهم في كل الأحوال، مما أجبرهم على ترك العراق قسراً، منهم الشخصية الوطنية والشاعر المبدع والصحفي البارع أنور شاؤل والكاتب مير بصري والصحفي المميز سليم البصون وغيرهم، وكانوا على حق كبير، إذ كان النظام البعثي الفاشي قد قرر الإجهاز عليهم تدريجاً في واقع الحال. لقد كانت نهاية المطاف لوجود اليهود بالعراق ولم يبق اليوم سوى مجموعة صغيرة لا يتجاوز عددها أصابع اليدين ومن كبار السن.
كما أغلق عملياً كنيس "مير طويق" في البتاوين منذ سنوات كثيرة، وهو الكنيس الوحيد المتبقي من كُنس اليهود العراقيين ببغداد.
الخاتمة
- ** لقد تراوح عدد نفوس يهود العراق في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية بين 120000-140000 نسمة، ولم يبق منهم الآن سوى عشرة أشخاص لا غير.
- ** تراوح عدد نفوس مسيحيي العراق في سبعينيات القرن الماضي بين 1500000-1700000 نسمة، واليوم وبعد ما تعرض له المسيحيون بالوسط والجنوب والموصل في أعقاب سقوط الدكتاتورية الغاشمة في العام 2003 ومجيء النظام السياسي الطائفي وممارسة الإرهاب ضد المسيحيين من جانب المليشيات الطائفية الشيعية المسلحة وتنظيم القاعدة الإرهابي، ثم اجتياح الموصل ومناطق من سهل نينوى من جانب عصابات داعش تقلص وجود المسحيين بالعراق إلى حدود 300000 نسمة لا غير.
- ** تراوح عدد نفوس المندائيين بالعراق في التسعينيات من القرن الماضي بحدود 70000 نسمة، أما اليوم فالتقديرات تشير إلى أن عددهم لا يزيد عن 5000 نسمة فقط، بعد أن تعرضوا لعمليات إرهاب وتهديد وتشريد ونهب وقتل من جانب المليشيات الطائفية الشيعية المسلحة في الوسط والجنوب وبغداد.
- ** وقد أُجبر عشرات ألوف الإيزيديين المسالمين في سهل نينوى على مغادرة العراق في أعقاب اجتياح سنجار وزمار وبعشيقة وغيرها من مناطق سكن المسيحيين من جانب عصابات داعش المجرمة التي وغلت في دمائهم وارتكبت أبشع الموبقات بحق النساء والأطفال وأسرت ما يزيد عن 6000 امرأة وطفل، وباعت الكثير من النسوة الإيزيديات في سوق النخاسة "الإسلامي" الإجرامي. لقد كانت عملية إبادة جماعية بكل معنى الكلمة، كما اعترفت بذلك الأمم المتحدة والكثير من منظمات حقوق الإنسان الدولية والإقليمية.
- ** وبسبب الإرهاب الدموي والصراعات الدموية والقتل على الهوية والصراع على السلطة والمال والنفوذ الاجتماعي ازداد عدد اللاجئين العراقيين بالخارج ويتراوح اليوم بين 4،5 – 5,0 مليون نسمة من مختلف الأعمار والديانات والمذاهب، علماً بأنه بلغ في فترة حكم البعث ما يقرب من 3,5 مليون نسمة. وإذا ما استمر النظام الطائفي في السلطة وممارسة المحاصصة الطائفية في توزيع سلطات الدولة العراقية الثلاث ومؤسساتها، فأن عدد اللاجئين سيصل إلى أكثر من ذلك بكثير حتى بعد الانتهاء من تطهير العراق من رجس عصابات داعش، إذ إن رجس الطائفية السياسية نفسه سيساهم في تدمير العراق وشعبه، فالظلم إن دام دمر، ولا يجوز له أن يدوم!
من هنا تأتي أهمية كتاب "يهود العراق والمواطنة المنتزعة" انتزاعاً، إذ أن هناك جهود حثيثة لإفراغ العراق من أتباع الديانات الأخرى ليفرغ الجو في البلاد للصراع بين الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية والسنية والتي ستحصد المزيد من الشيعة والسنة وتدفع بالكثير منهم إلى النجاة في دول الشتات العراقي، في أوروبا وأمريكا وأستراليا وغيرها من الدول.
إن الكتاب يحمل في كل صفحة من صفحاته تحذيراً جدياً للشعب العراقي وقواه الوطنية والديمقراطية وكل القوى الخيرة التي لا تريد للعراق هذا المصير، وكذلك للرأي العام العالمي والمجتمع الدولي، ودعوة ملحة للعمل من أجل مساندة الشعب وقواه الوطنية في جهده لتغيير واقع الحال، لتغيير النظام الطائفي السياسي والتحول صوب الدولة المدنية الديمقراطية العلمانية، الدولة التي تفصل الدين عن الدولة والسياسية، وتؤكد بأن "الدين لله والوطن للجميع"!، إنه الطريق الوحيد للخلاص من الكوارث المحتملة القادمة والمحن الرهيبة التي يمكن أن تكون أبشع مما عانى منه الشعب حتى الآن، والتي يمكن أن يعيشها الشعب أن استمر أولئك الذين أطلق عليهم الشعب صيحته المدوية " باسم الدين باگونة الحرامية"، "باسم الدين كتلونة الشلاتية"!!!
[1] - عبد الله، سعد سلمان. النشاط الصهيوني اليهودي بالعراق. مصدر سابق. ص 141.
- السوداني , صادق حسن. النشاط الصهيوني بالعراق 1914-1952.
منشورات وزارة الثقافة والإعلام-الجمهورية العراقية, سلسلة دراسات 206. بغداد 1980. ص 84/85.