ورث المثقف العراقي الكثير من الضغوط المتعامدة ولعل أبرزها الضغط القومي الذي أطفأ الأمل بثورة تموز واستخدم أعلى مستويات القسوة في تفتيت بنية المجتمع الثقافية وقام بتحويل البلاد إلى معتقل، وصنع الحواجز الكفيلة بمنع التجانس في مجتمع بعمقه التاريخي كان يستجيب للنزعات الإنسانية الأممية فكان الظهير لكل مظاهر التحرر بغض النظر عن الدين والعرق، فهو يجمع من قوته الشاي والسكر والطحين ليتبرع فيها لأي حركة تحرر في كوبا أو الجزائر أو غيرهما.
جاء القوميون فطمروا الهوية العراقية التي كادت أن تتنفس في عهد قاسم فمنعتها التقاطعات وغياب الخطابين الثقافي والسياسي.
وبعد حين حدثت المعركة بين الطرفين القوميين وكانت الغلبة لعبدالسلام عارف حيث انسحب البعثيون وحرسهم القومي من المشهد وتوج المشهد باحتراق طائرة عبد السلام عارف ورحيله، وتوافق المعنيون على تولية شقيقه عبد الرحمن عارف رئاسة الجمهورية فكانت فترة استرخاء لم يشهد العراقيون مثلها منذ زمن طويل.
شهدت هذه الفترة قفزة في وعي العراقيين للأحداث فكانت مجالسهم في الريف والمدينة لا تخلو من أسماء جيفارا وهوشي من، وكان فرسان التجديد الثقافي قد حولوا مقاهي بغداد( المعقدين وسمر، البرازيلية والبرلمان، الزهاوي وأم كلثوم) إلى عواصم للتجديد والإبداع فكان هذا التفاعل مع التيارات الفكرية في العالم من الوجودية إلى الهبيز مروراً بالعبث.
نشطت القراءة فكانت تلك النُصب الروحية لألبير كامو وجان بول سارتر ورواد الدادائية والسريالية، وتمكن فرسان التجديد من الانتقال بالشعر العراقي إلى غابة الأسئلة إلى الشعر الحر (فرسان التجديد هم من تم وصفهم بجيل الستينات).
العالم كأنه قدر كوني يغلي والبخار المتصاعد منه يتنفسه العراقيون، الفلاسفة الفرنسيون يبحثون عن وسيلة لطرد الجهل المقدس عن اليسار، والمثقف العراقي يرى أن الشعب تقدم على اليسار فيحصل الانشقاق في الحزب الشيوعي العراقي، قيادة مركزية تعلن التمرد ولجنة مركزية مستمرة على إيقاعها، ثورة الطلبة تجتاح العالم والفلاسفة والشعراء مع الثورة، وفي العراق انقسم المثقفون بين من ناصر القيادة المركزية وبين من استمر في ولائه للجنة المركزية.
كان الحس العام يرى أن الطريق إلى القصر الجمهوري سالكة وسهلة، وكان الناس ينامون وهم يحزرون من سيصل إلى القصر أولاً، وكان الغرب يرصد الأنفاس ويفسر الأحلام العراقية..