قيمة القول من قيمة القائل، والحقيقة التاريخية يتمّ تبنّيها مؤسّساتياً أو إجتماعياً إتكاءً على القيمة الاجتماعية للقائل أو المدوّن، وبهذا، ما تأخذ به المؤسّسة الرسمية - أو ما تأخذ به المنظومة الاجتماعية - لا يتعدّى حدود الأفراد والعوائل التي لها سلطة سياسية أو إجتماعية، وهذا المثال ينطبق تماماً في حالة التحدّث عن السلطة الادبية، لقد كان ( بدر شاكر السيّاب ) سلطة أدبية لذا كان لقوله الشعري - أو حتى لتنظيره للشعر - سلطة الفتوى ، لذا نرى إمتداده عبر جيل من الشعراء الذين إنجرفوا خلف صيحته المدوّية ، سلطته أنّه كان ابتداء .
***
هذا الحديث يقترب تماما من جملة (ميشيل فوكو): " إنّنا نمارس سلطلتنا عندما ننتج معرفة "، هذه الجملة تنفتح ليكون السؤال بحدّ ذاته سلطة.
السؤال الذي يثير قلقا وإرباكا في المنظومة المعرفية والاجتماعية، سلطتنا تتجلّى هنا ، حينما يقف المتلقّي عن أن يكون هو هو ، بل كائنا آخر ، عندما يكفّ اليقين عن أن يكون يقينا خالصا، بل تبدو كلّ معرفة عالمة كما لو أنّها معرفة جاهلة وتحتاج الى زلزلة وبركان.
***
ليس من السهل أن تكون بداية، لكن أن يكون ظهورك في آخر السياق لا يعني أنّك لن تكون بداية أبدا ، البداية تولد مع كلّ سؤال، والسؤال لا يأتي إعتباطاً، السؤال حياة كاملة، وتجربة نافرة وجدت نفسها في قالب ضيّق جدا، بل قالبٌ لا يصلح أن يكون ثوبا حتى، هكذا أن يكون ما موجود أضيَق من الطموح والرغبة والحلم .
***
كلّ هذه التداعيات إنّما جاءت نتيجة لقراءة عبارة ( الأصمعي ) التي لا تتجاوز العشرة أسطر في كتابه ( فحولة الشعراء ) ، يتحدّث فيها الأصمعي عن قصيدة النابغة الجعدي التي يقول فيها:
" تلك المكارم لا قعبان من لبنٍ " ،
يقول: " لو كانت هذه القصيدة للنابغة الاكبر بلغت كلّ مبلغ " ( فحولة الشعراء : ١١ ).
هذه العبارة تعني ضمناً إنّ الحقيقة التاريخية يتمّ إهمالها الى درجة نسيانها، أو حتى تناسيها ، لأنّها لم تصدر عن طريق سلطة ( سواء أكانت سلطة سياسية، أو دينية، أو ثقافية) والنابغة الذبياني كان سلطة شعرية قبل الاسلام، بل كانوا ينصبون له خيمة في سوق عكاظ ليكون حَكَماً بينما الشعراء الذين يقرأون بحب قصائدهم بين يديه مثل الاعشى وحسان بن ثابت ولبيد بن ربيعة والخنساء ، يتقبّلون بحبّ رأيه فيما يقولون .
***
والأصمعي يقرّ هنا بأهميّة قصيدة ( النابغة الجعدي)، لكنّه يتحدّث عن عدم تسليط الضوء بشكل كبير عليها لأنّ ( الجعدي) لم يكن صاحب سلطة، حتى ولو كانت سلطة أدبية ، وبالتأكيد لا يمكن تجاهل ما تمّ الترويج له بخصوص الجعدي باعتباره شاعراً مُغَلّباً ، فقد غلبته ( ليلى الأخيلية ) عندما تبادلا الهجاء ، مثلما غلبه شعراء آخرون .
***
وحين نبحث عن جذور القصيدة، نجد أنّ هناك من ينسبها الى شعراء آخرين مثل أمية بن أبي الصلت (إبن هشام في السيرة النبوية)، أو نجد بعضهم ينسب القصيدة نفسها الى (الصلت والد أمية) مثلما فعل (إبن عبد ربه في العقد الفريد)، وبالتأكيد فإنّ هناك قصائد أخرى يشترك فيها كلّ من الجعدي وأمية بن الصلت، وهنا علينا أن نكون حذرين جدّا ويقظين في قراءة ما وصل إلينا - والقصيدة هنا نموذجا صريحا - باعتباره يكشف عن محاولات خفيّة أيضا لتهريب الحقيقة التاريخية.