أفكّر الآن في مشكلة تحدث دائماً، ولكثرة تكرارها تبدو وكأنّها عصيّة على الحل، مشكلة تخصّ ثقافة مبنية على فهم محدود للزمن، وأقصد تحديداً أن تضرب موعداً مع أحد ما، فتذهب في الوقت المحدّد ويتأخّر صاحبك أو لا يأتي أصلاً.
***
قلتُ أنّ المشكلة تتعلّق مباشرة في فهمنا للزمن، وهي فردية، وشخصيّة جدّاً، لكن، لكثرة حدوثها، تبدو وكأنّها مشكلة جمعية، مشكلة ثقافية متجذّرة في سلوكيّات البعض، لكنّه البعض الكثير، الى درجة أن تتوقّع في حالة التواعد - مع أيّ شخص - أنّ الطرف الآخر لن يلتزم بالوقت المحدّد، ولأجل جعل التأخير متوقّع سلفاً يتم تمطيط وقت اللقاء نصف ساعة أو ساعة بعد الموعد، فيبدو الموعد غير محدّد تماماً.
***
أذكر هنا إحدى رسوم كاريكاتير عباس فاضل التي كنت أتابعها أسبوعيّاً، فهي رسوم تتضمّن نقداً لاذعاً لممارسات إجتماعية، وما أذكره الآن تحديداً هو كاريكاتيراً لشخصين يحاولان إبرام موعد للقاء، فيقول أحدهما:"باكر نلتقي بالعشرة بقهوة فلان، إذا بالثنتين ما جيتك، بالستة أكون يمك"، لا يمكنني أن أنسى هذا الكاركاتير لأنّه جعلني أنتبه يومها على قيمة الزمن ودلالته لدينا كعراقيين.
***
روى لي أستاذ رياضيات في جامعة الجادرية نهاية الثمانينيات، أنّه حينما كان يحضّر لأطروحة الدكتوراه في لندن أراد أن يعطي إنطباعاً جيّداً عن إلتزامه بالوقت لأستاذه الإنجليزي، قال: "ذهبت الى المكان في المحدّد تماماً فوجدته جالساً ينتظرني".
***
وذات مرّة، في أيام عمّان، تواعدتُ مع شاب أمريكي على أن نلتقي في مقهى (السنترال)، وصلتُ قبل الموعد بخمس دقائق، ووصل هو متأخّراً دقيقة واحدة، قلت له يومها: أنت نموذج سيئ للأمريكي، قال مستغرباً: لماذا؟
قلت: تأخّرت عن موعدنا دقيقة واحدة.
ثمّ اتّفقنا أن نلتقي ثانية في نفس المكان وفي نفس الوقت، فكان أن وصل قبلي للمقهى، ووصلتُ أنا متأخّراً دقيقة واحدة، وحين رآني قال: "دقيقة بدقيقة، فك بفك".
***
مرّة تواعدتُ مع شخص عراقي في منطقة أوبرن، في مقهى (غلوريا جينز )، وصلتُ الى المقهى قبل ربع ساعة من الموعد، وكانت إبنتي (بلاد) برفقتي، شربنا قدحي كاباتشينو، فجاء وقت الموعد ولم يحضر الشخص، قالت بلاد: أين صاحبك؟
قلت: لعلّه في الطريق.
قالت: كان عليه أن يتّصل بك ويخبرك أنّه في الطريق.
قلت: هنا يبدأ اختلاف الثقافات، وتحدّثت لها عن فهمنا للزمن، قالت:: يمكنك أن تنتظر خمس دقائق فإذا لم يتّصل بك فلا يجوز أن تنتظر أكثر فهذا شخص لا يحترم الوقت، ويجعلك تنتظر.
بقينا نتحاور عن معنى الوقت، بعد ربع ساعة من الموعد لم يحضر صاحبي الذي نسيت حقّاً من كان، قالت: علينا أن نكمل حوارنا في مكان آخر، وليذهب صاحبك الى الجحيم.
وبالفعل غادرنا المكان، ودخلنا في حوارات كثيرة، المهم أنّ صاحبي الذي لا أذكر من هو لم يتّصل، ولم يعتذر.
***
من الطبيعي جدّا أن يحدث أمرٌ ما يجعلك تتأخّر، أو حتى يعيقك عن الإلتزام بموعد ما، وهنا، بوجود تقنية الإتصال، يصبح من المعيب حقاً أن تجعل الآخر ينتظرك.
أفكّر في ذلك حقاً: من أكون أنا لأجعل الآخر ينتظر؟ وإذا كنتُ أحبّ ذاتي فعليّ أن أحترمها أيضا، واحترام الذات يتجلّى عبر احترام الوقت. ليس وقتي فقط، بل وقت الآخر أيضا.
وهنا تصعد المقولة الكونفوشيوسية:"عامل الآخرين بمثل ما تحبّ أن يعاملك الآخرون"، تريد من الآخر أن يحترمك، إذن عليك أن تعلن إحترامك للآخر. واحترام وقت الآخر في وجهة نظري أعلى تجلّيات الإحترام.
***
أريد أن أقول، إنّنا على أرض غير التي ولدنا عليها، وضمن ثقافة تنظر للزمن بمنظار يختلف تماماً عن نظرتنا له، وعلينا أن نتكيّف مع المنظار الجديد، وإلا فإنّنا سنكون مطاردين بسخريّة كاريكاتير عباس فاضل.