في الرابعة من فجر الرابع عشـر من تمـوز عام (١٩٥٧) مات جدّي (حسين فاضل الكرخي)، والمعروف عند أهالي القرية بحسين الفاضل، الرجل الذي طالما تمنّيتُ - ولا أزال - لو أنّني ألتقي به، رغبة حقيقية في أن أكون قريباً منه، من مزاجه الناري، ومعرفة دور المزاج الشخصي في دفع الفرد الى أن يكون دائماً على أهبة الإنقلاب حتّى على نفسه.
***
دخل غريباً الى قرية الزهيرات عام ( ١٩٣٣ )، القرية التي نمت ضمن مقاطعة (صاطي) قبل حوالي ثلاثمائة وخمسين عاماً، قال لي أحد كبار السنّ في القرية أنّ (عبد القادر الزهيري) كان أوّل من سكن فيها ولهذا سمّيت بالزهيرات، بينما يرى العلامة (مصطفى جواد) إنّها سمّيت بالزهيرات لكثرة زهورها.
***
دخل القرية غريباً، فهو إبن ملّاك يقيم في (بعقوبة) التي تبعد مسافة ( ٣٦كم ) عن القرية، لكّنه جاءها بزيّ شرطي خيّال، دخل الى القرية باعتباره ممثّلاً عن الحكومة العراقية، ويبدو أنّ هيبة الحكومة الفتيّة يومذاك قد أضافت الى هيبة فتوّته الشخصيّة ضوءاً آخر - كان في السادسة والعشرين من عمره - جعلته يُسمّى (حسين الفاضل)، تحوّل اسم أبيه الى صفة، فهو الفاضل، إلا أنّ جدّي لم يكن فاضلاً حقّاً إلا بالتطابق مع ذاته، فضيلته أنّه كان حقيقيّاً إزاء نفسه.
قال لي الحاج محمود أحد كبار السنّ في القرية: "منو كان يكدر يحجي ويه جدك، كان شرطي خيّال، كان سلطة"!
لا يزال الفهم الغبي لمفهوم السلطة قائماً.
***
أذكر أنّني رأيت مخفر الشرطة القديم في القرية، كان بيتاً عاديّاً، كنتُ في الثامنة تقريباً، حوالي عام ( ١٩٧٤ )، عندما دفعني الحظّ السيّئ أن أكون قريباً من حادثة رسخت في الذاكرة، ومن خلالها بقيت صورة المخفر محفورة آيضاً، رأيتُ شخصاً مُدمّى، مسنوداً بشخصين، كان أثر الدم على شكل هلال على صدره، وكان يصيح: "هو ضربني أوّلاً بالمسحاة، فقتلته".
***
كان جدتي إبنة رجل غريب عن القرية، رجل هرب من (طهران) منتصف القرن التاسع عشر، ( طباطبائي) يعود في النسب الى (علي بن أبي طالب)، عرفته القرية بإسم (السيد حسن)، والى أن ماتت جدّتي عام ( ١٩٩٦ ) كانت تُسمّى (فاطمة السيد).
***
كان السيد حسن مُلّة القرية، فتح في بيته مدرسة صغيرة تتلمذ فيها العديد من كبار السنّ في القرية، مثل (عباس إسماعيل، ومهدي العبود)، وشخص آخر أذكر لقبه فقط، (السيّالي)، وهو الوحيد الذي أكمل مشوار الدراسة ليكون مدير مدرسة لاحقاً.
وكانت جدّتي تدرس على يد أبيها مع تلاميذه.
***
كانت بوابّة مخفر القرية تقابل تماماً بوابّة بيت السيد حسن.
وذات مرّة، فتحتْ فاطمة السيد باب البيت فرآها الرجل الغريب.
قلتُ لها بعد أكثر من ربع قرن على وفاته:
كيف تعرّف جدّي عليك؟
قالت: "مرّة فتحتُ الباب فرآني"، ثمّ إحمرّ وجهها.
***
لا أعرف كم أقام حسين الفاضل كشرطي خيّال في القرية بعد زواجه من إبنة الغريب، لكنّني عرفتُ من أبي أنّه تمّ القبضُ عليه قرب قاعدة الحبّانية في حركة إنقلاب رشيد عالي الكيلاني، قال أبي:
عندما قبضوا عليه مع آخرين كان عقابهم أن يتجرّدوا من زيّ الشرطة، وهكذا طردوه من الشرطة بملابسه الداخلية.
***
ثمّ إنّه عمل سائق سيارة أجرة بين ساحة الميدان وباب الشرجي في بغداد، بقي عاماً ونصف العام على هذا الحال، ويبدو أنّ أمراً بالعفو قد صدر بعد ذلك، لأنّه إندرج ثانية ضمن السلك الحكومي، لكن ضمن قوات حرس الحدود.
قال أبي: كان لا يأتينا إلا مرّة كلّ ستة أشهر، حتى تمّ طرده ثانية لإشتراكه في محاولة إنقلاب (علي ممتاز ) عام ( ١٩٥٢ ) .
***
أفكّر كثيراً في اللغز الذي جعل جدّي حارس حدود لعشر سنوات، بينما إستغرق حصولي على جواز سفر بإسم مستعار عشر سنوات أيضا، لقد عبرتُ الحدود بقناعٍ آخر في لحظة سيبان مطلق، لكنّه سيبانٌ ضارٍ، أتساءل: لو كان جدّي حيّاً لقبض عليّ حتماً، هل كنتُ محظوظاً لأنّني جئتُ في غير زمنه؟
***
وهكذا، شارك حسين الفاضل في محاولتي إنقلاب فاشلتين، ومات وهو في الخمسين من العمر، بعيداً عن مُلك أبيه الذي ضاع لأسباب أجهلها، لكن، ثمّة دراما هائلة تجري بنا وحولنا جعلت الصدفة ترقص على صالة المسرح الكبير، أن تتمّ قراءة البيان رقم واحد لإنقلاب عام ( ١٩٥٨ ) في الذكرى السنوية الأولى لرحيله!