عندما أغلق ( الغزالي) نوافذ الفلسفة بفتوى التكفير عبر كتابه " تهافت الفلاسفة"، والتي عاود تأكيدها ثانية في اعترافاته الخجولة المسمّاة " المنقذ من الضلال "، أصبح فتح حوار فلسفي، أو الانتصار للفسلفة تهمة جاهزة للتشكيك باعتقاد الفرد قد تقود الى القتل، هذه الصرامة في حديّة الفتوى كانت وراء تعطّل السؤال الفلسفي ، وبهذا أظلمت سماوات العقل، بعد أن إرتفعت ستائر ( النقل ) وأسدلت ستائر ( العقل )، تمهيدا لفترة ظلاميّة بدأت على رأس المئة الخامسة للهجرة، ولا تزال ظلالها تغطّي أراضٍ كثيرة من بلاد المسلمين .
***
كان الغزالي - كمُفْتٍ - واقعاً بين فخّين، إنتبه لهما لاحقاً، لكن بعد أن أفتى بتكفير الفلاسفة وانتهى الأمر ، ففي كتاب إعترافاته "المنقذ من الضلال " يكشف الغزالي - بجرأة جميلة غير مألوفة عربياً ولا إسلاميّاً - أنّه وهو في بغداد- عندما بلغ رتبة التدريس والإفتاء - كان معنيّاً " بطلب الجاه وانتشار الصيت " (المنقذ: ص٨٤) (١)، لكنّه يقول أيضاً - كتبرير ضمني- أنّ أفكاره كانت تتوائم مع رغبات وطلبات أصحاب الشأن، الغزالي هنا يحاول أن يجعل كلّ خطوة قام بها كانت نتاجاً لإنهمامه الذهني الخاص، أي أنّه كان يرغب بأشياء، ومن حسن الصدف أنّ رغباته كانت تتطابق مع ما يطلبه منه أصحاب الشأن، إنّه يريد أن يقول أنّه لم يكن تابعاً إلا لعقله حتى وهو يُنَفّذ رغبات أهل السلطة.
***
الجميل في كتاب " المنقذ من الضلال " هو هذا الإصرار على ترجيح كفّة تجربة ( الذات ) باعتبارها رائية ودافعة ولجوجة في طلب العلم، يقول الغزالي مفصحاً عن ذاته: " كان التعطّش الى إدراك حقائق الأمور دأبي وديدني، من أوّل أمري، وريعان عمري، غريزة وفطرة من الله تعالى وضعها في جبلتي، لا باختياري وحيلتي، حتى انحلّت عني رابطة التقليد ، وانحسرت عني العقائد الموروثة على قرب عهدٍ بسن الصبا " ( المنقذ: ص ٤٩ )، لكن لا بأس أن تجري الذات برغبتها، في مجارٍ تبدو فيها وكأنها تابعة ومُنْقادة رغم أنّها تمتلك سلطة الفتوى.
***
الغزالي في كتابه " المنقذ من الضلال " يختلف تماماً عن الغزالي في كتابه " تهافت الفلاسفة "، لأنّه أدرك المأزق لاحقاً، مأزق أن تنضوي تحت لافتة ثابتة ومحدودة.
لقد كان في المركز حين كتب " تهافت الفلاسفة "، لكنّه كتب " المنقذ من الضلال "حين كان خارج محيط الدائرة، في المنقذ هو أكثر إشرافاً على الدائرة كلّها، يرى ما لم يكن يراه حين كان هناك في المركز .
أريد أن أقول هنا أن وجودنا في المركز يجعلنا لا نرى، يحجب عنّا الكثير من التفاصيل، نكون منساقين تحت انفعالٍ يوهم بالحياة، لكنّه يُحجّم الحياة، بل يجعلها مع الوقت أضيق من خرم إبرة، وهذا ما وصل إليه الغزالي عبر تجربته في بغداد ، ربّما كان في عملية إغتيال الوزير ( نظام الملك ) - سنده السلطوي - الإشارة التي جعلت الغزالي ينتبه للضيق والحرج الحقيقي الذي وضع نفسه فيه، لقد كان جريئاً وهو يتحدّث عن فقدانه القدرة على الكلام، التي تمّ تشخيصها بأنّها " أمر سماوي، وليس له سبب إلا عين أصابت أهل الإسلام " ( المنقذ : ٨٦ )، بينما كان الغزالي في الحقيقة يعاني من صراعٍ فكري حادٍ، لقد إنتبه للفخّ الذي أوقع نفسه فيه، أراد أن يقفز بعيداً، "لقد جاوز الأمر حدّ الإختيار الى الإضطرار" ( المنقذ : ٨٥ ) ، ثمّة الكثير من التفاصيل يسكت عنها النصّ، فالدوافع التي تُطرَح باعتبارها دينية خالصة تكاد أن تكون نتيجة لاحقة لما أصابه في بغداد، صعود الحسّ الديني نتيجة لأزمة حقيقة تجسّدت بالفراغ الروحي وهو في المركز .
***
أزمة الغزالي أنّه أدرك عقم فتوى التكفير وهو في المركز ، الأمر الذي سبّب له أزمة نفسية بلغت من الحدّة أن ولّدت له عسراً في الهضم، بل تعدى ذلك الى ضعف القوى البدنية، ويبدو لي أنّ السائل الذي كان وراء كتابة " المنقذ من الضلال " قد رأى إنعكاسات ذلك بعد قرابة عشر سنوات على طريقة التفكير الجديدة للشيخ، فقد أصبح الحسّ الصوفي هو المحرّك والدافع وراء فهمه للدين ولعلاقة الفرد بربّه ، فأراد - السائل بقصد أو بدونه - أن يفتح له باب التراجع، إلا أنّ الغزالي في ذروة الإعتراف يتخاذل ثانية، فالرياضيات برهانية، وكذلك المنطقيات " لا يتعلق منها شيء بالدين نفياً وإثباتاً، بل هي النظر في طرق الادلة والمقاييس وشروط مقدمات البرهان وكيفية تركيبها " ( المنقذ: ٦٣ ) ، لكنّه يحرّمهما حتى لا يظنّ الجهلة أنّ الفلسفة كلّها برهانية بينما الالهيات تخمينية، إنّه هنا يُفَكِّر بالجاهل كحجّة للتخاذل ليس إلا، لقد أساء لنفسه - قبل أن يسيء للآخرين - بإصطفافه الى جانب الجهل ضدّ العقل .
***
بعد أربع سنوات من التدريس في المدرسة النظامية ببغداد، أدرك ضيق المركز ومحدوديّته فهرب منه، هرب من بغداد كلّها، لأنّها كانت تمثّل هذا المركز، هرب بحجّة الحجّ سنة (٨٨هج )ومن مكّة هرب الى بلاد الشام فأقام فيها قرابة عامين، ثمّ لجأ الى بيت المقدس، ثمّ الى الحجّ لأجل الحجّ حقّاً، ثمّ عاد الى (طوس) مسقط رأسه، وهناك إنطوى على ذاته قرابة عشر سنوات، هي بالتأكيد سنوات الكشف بعد أن تذوّق إنفتاح المنهج الصوفي، أدرك بأنّ الوصول الى الله - عبر طرق أخرى - ممكنٌ، حتى قال: " قد كان ما كان مما لست أذكره فظنّ خيراً ولا تسأل عن الخبر ".
***
لكنّه رغم هذا الوضوح ظلّ معانداً، ربّما لأنّ الإعتراف كان سيخدم الجهة الضدّ، حتى وهو خارج محيط دائرة الصراع السياسي الديني بقي ينظر لإبن سينا ليس كفيلسوف، بل كقطب سياسي باطني، كان الإعتراف بالفلسفة بعد فتوى تكفيرها سيكون نصراً - من وجهة نظر الغزالي - لإبن سينا ولتيّاره السياسي، بل إنّه يتتبّع خطوات إبن سينا فينتقد من وصيّته إستثناءه "شرب الخمر لغرض التشافي " ( المنقذ: ٩٩ ) .
أزمة الغزالي أنّه تحرّر من شهوة الجاه وانتشار الصيت، أراد أن يتطابق مع تجربته الداخلية الجديدة، لكنّه لم يتحرّر تماماً من الآخر - بصنفيه العاقل والجاهل - وقد عاقه عن التصالح مع العقل الندّ إنتشار الجهل بشكلٍ غريب، ومن وجهة نظره أنّ الدين يمكن أن يخسر الشارع إذا إتسعت مساحة العقل، هو لم يقل بذلك، لكنه قام بتحجيم العقل حفاظاً على الدين.
***
لقد رفض التصوف بدءاً ، لكنّه عاد إليه في النهاية باعتباره حلّاً لضيق نطاق دائرة المُفتي، لقد عانى الغزالي ذاته من الفتاوى التي أطلقها، ومع هذا فقد كان شجاعاً في الإنسلال منها والإعلان عن موقفه منها - ولو على خجل - عندما أدرك ضيقها ومحدوديّتها.
لقد كانت فتوى الغزالي سبباً في غلق باب العقل الفلسفي الإسلامي، لكنّه في نزوحه بعيداً عن مركز الإفتاء، وتحليقه العالي في فضاء التصوّف، أعاد للحسين بن منصور الحلاج الذي أجمع قرابة ثمانين مرجعاً من كافّة المذاهب الإسلامية على قرار صلبه سنة ( ٣٠٩ هج ) في زمن الخليفة المقتدر بالله ، لقد أعاد الغزالي للحلاج هويّته الدينيّة باعتباره موحّداً، أعاده الى الإسلام بعد عملية صلبه بما يقارب القرنين من الزمان، وبذلك فتح نافذة أخرى لفهم الدين والتديّن، وأنّ الإجماع ربّما كان على خطأ.
***
١) المنقذ من الضلال، الامام أبو حامد الغزالي، ط - ١٩٨٠، خزانة الفكر العربي، مؤسسة ناصر - بيروت.