لا أريد هنا أن أناقش قضية أصول الحكم في الإسلام، بقدر ما أريد أن أقرأ سعة فضاء الصراع الذي دار حول كتاب " الاسلام واصول الحكم "* لعلي عبد الرازق عام ( ١٩٢٥م)، بل ما يهمّني حقاً هو الفسحة التي تحرّك بها علي عبد الرازق، والتي كشفت إمكانية طرح سؤال- من داخل الفضاء الإسلامي - يمكنه أن يهز عرش الملك الطامح بالخلافة .
***
لديّ إختلافات مع بعض طروحات علي عبد الرازق ، لا أريد إثارتها هنا، لكنّني أتّفق معه في الكثير مما ورد في الكتاب، خصوصاً في (لا دينية منصب الخليفة)، وقوله " لا دينية " لا يعني به أنّه كان خارج نطاق الفضاء الديني، بل لأنّ منصب الخلافة يمثّل سلطة ولحظة تاريخية أخرى غير سلطة ولحظة النبي، فمن وجهة نظر علي عبد الرازق التي تتطابق مع وجهة نظر المؤسّسة أنّ الصلة مع السماء إنتهت مع موت محمد بن عبد الله، مع موت النبي إنقطع نزول الوحي، إذن فالسلطة المكتسبة هنا تختلف عن سلطة النبي بما يلي:
١) سلطة الخلافة ينقصها الإتصال بالسماء، الذي كان متوفّراً في حالة النبي.
رغم أنّ الخليفة يمتلك سلطة إنتاج المعرفة أو إعادة إنتاجها.٢) أنّ الخلافة بلا جذر تشريعي سواء في القرآن، أو في السنّة، إضافة الى كونها لم تحدث بإجماع.
أي أنّه أفرغ منصب الخليفة من هالة التعظيم التي تحيط به، أزاح عنه هالة الدين ومنحه جبروت السلطة، فالخليفة ملك ليس إلا.
***
لم يتناول علي عبد الرازق مفهوم (ولاية الفقيه) فهذا شأن آخر، رغم أنّه يلتصق بمفهوم الخلافة الروحية تماما، فولاية الفقيه محاولة في إزاحة ( الولي) من سلطة الملك الى سلطة التشريع والرقابة الروحية، وهي فكرة تمّ تطبيقها عند العرب قبل الإسلام عندما رفض (أكثم بن صيفي ) أن يكون رئيساً لبني تميم، واكتفى أن يكون مُشرفاً على رئيسهم وناصحاً لعقلائهم.
***
ما أحاول التركيز عليه يكاد أن يكون خارج متن الكتاب، لكنّه حتماً لا ينفصل عن المتن تماماً لأنّه متعلّق به، بل هو انعكاس وصدى لأسئلة حاول علي عبد الرازق أن يتصدّى لها، وكان يعلم أنّ المؤسّسة الدينية المتمثّلة بالأزهر لن تقف مكتوفة اليدين، وأنّ الكثير من شيوخها سيكون لهم أراء مخالفة، وهذا أمر طبيعي، غير أنّ علي عبد الرازق كان قلقاً ليس من الحوار القادم، بل من اتّجاه الحوار، هو يعرف جمود المؤسّسة الدينية وتبعيّتها للسلطة الحاكمة، وكان يعلم جيّداً أنّه - في جوهر الكتاب - يقف على الضفة الاخرى البعيدة عنهما معاً تماما، لهذا بدأ كتابه بالتشهّد، قال: " أشهد أن لا إله الا الله، ولا أعبد إلا إيّاه، ولا أخشى أحداً سواه.
له القوّة والعزّة، وما سواه ضعيف ذليل " (الاسلام واصول الحكم: ص ١١١)، أقول، بهذه العبارة صفع علي عبد الرازق السلطات كلّها - الدينية منها والسياسية - وألقى نفسه في الموج، وكأنّني هنا أتحدّث عن مقلوب قصّة موسى، لقد وصل الى قراءة مغايرة تماماً لما هو مأخوذ به مؤسّساتيا واجتماعيا، وحتى لا يبدو خائناً لذاته، صرّح وجاهر بما توصّل إليه، بل كتب ذلك كتاباً ليكون رأيه أكثر رسوخاً في مجتمع - كان ولا يزال - يرزح تحت ثقافة شفاهية، أقول، ألقى علي عبد الرازق نفسه في الموج لينجو أمام ذاته، وأمام تاريخ الحقيقة.
***
كان علي عبد الرازق قلقاً من جرّ الحوار الى أماكن أخرى بعيدة أو ثانوية، ونسيان أو تناسي أصل وجوهر البحث الذي يقوم عليه الكتاب.
ولأنّ (الخلافة) قضية حاسمة ومركزية في التاريخ الإسلامي، ولأنّ اللغة في أحايين كثيرة تكون نافذة للتلاعب بالمعاني وجرّ القصد الى نواحٍ أخرى لم يقصدها المؤلف بعينها، ويعلم القارئ الذكي كيف يتمّ ذلك حقاً، لكن هذا لا يمنع أيضاً من تشخيص قصور المحاجج في إدراك ما أراده المؤلف، أي يمكننا القول بأنّ المؤلف والمحاجج يعيشان زمنين مختلفين، وأنّ زاوية فهم النصّ تُحدّد حجم هذا الإختلاف، وبالتالي تمنحه زمنه الحقيقي .
***
لقد تمّت محاكمة علي عبد الرازق لأنّ الكتاب إشتمل على أشياء " لا تصدر من مسلم، فضلا عن عالم " ( الاسلام واصول الحكم: ٩٦ )، لكنّهم سكتوا عن التهمة الاولى، وحاكموه على التهمة الثانية، فكان حكم هيئة كبار العلماء التي ترأسها شيخ الجامع الازهر " بإخراج الشيخ علي عبد الرازق، أحد علماء الجامع الازهر والقاضي الشرعي بمحكمة المنصورة الإبتدائية الشرعية ، ومؤلف كتاب ( الإسلام وأصول الحكم ) من زمرة العلماء " ( الاسلام واصول الحكم: ٩١ ) .
***
النافذة التي أراها هنا تكمن في (سكوت) هيئة كبار العلماء عن التهمة الأولى " أشياء لا تصدر من مسلم"، التهمة التي تقود مباشرة الى التشكيك في الإعتقاد، وتنتهي بالتكفير، وهو ما أقلق علي عبد الرازق أكثر من فقدانه صفة العالمية، لأنّه يعرف مدى جمود المؤسّسة وضيق قابليتها على تقبّل الاسئلة التي تهز أركان المقدّس، المقدّس الذي لايتجاوز أن يكون طريقة فهم خاطئة من دون قصد أو بقصد، كان علي عبد الرازق يعي تماماً أن التقديس على طول التاريخ ما هو إلا طريقة فهم خاطئة تُدار بقصدية، وتُّتَبَع بسذاجة، هكذا تعلو الخطوط الحمراء، ويصبح السؤال البريء - السؤال الباحث عن الحقيقة - سؤالاً خبيثاً لا يقصد الحقيقة بقدر ما يقصد تفكيك المقدّس وهدم أركانه.
***
إزالة التهمة الأولى جعل فضاء الحريّة داخل نطاق الفكر الديني أكثر إتّساعاً لاستيعاب أسئلة أقلّ ما توصف به أنّها شجاعة وجريئة وثابتة، لأنّها حاولت في لحظة سياسيّة غائمة أن تزيح غيوماً متراكمة على سماء الوعي السياسي والفهم الديني الإجتماعي، غيوماً تنفخ في السلطة الحاكمة جبروتاً مدعوماً بفهم ديني قاصر، ويبدو لي أنّ عدم الإجماع على قرار الهيئة كان نافذة أخرى وفسحة مضافة لفضاء حريّة التفكير ، فمن بين أربع وعشرين شيخاً، كان هناك خمسة شيوخ رفضوا الوقوف الى جانب القرار، وهذا موقف يتضمّن إقراراً بما جاء في كتاب علي عبد الرازق، أو يتضمّن إقراراً بإمكانية السؤال والبحث والاجتهاد.
***
لقد تمت إزاحة قضية الخلافة من المركز الى الهامش، بعد أن تمّ تصعيد الجدل من طرف واحد حول روحية الشريعة الاسلامية ، فالأزهريّون يعترضون على أنّ الشريعة "جاءت لتنظيم العلاقة بين الانسان وربّه فقط" (الاسلام واصول الحكم: ٧٦ )، وهذه نقطة من الحساسية بحيث أنّها تلامس جدوى وجود الشيوخ والمؤسّسات الدينية التي تعتاش على نظام رقابي إجتماعي غالباً ما يُدار بإيعاز سلطوي دنيوي، ثمّ أنّ هيئة المحكمة دارت حول الطرح الذي تبنّاه علي عبد الرازق من أنّ الدافع السياسي وليس الديني هو الذي كان وراء إعلان الجهاد في زمن النبي، وأنّ الجهاد كان خطوة في سبيل الملك وليس خطوة في سبيل نشر الدعوة ( الاسلام واصول الحكم: ٧٨ ).
***
الجميل في الامر ، أنّ علي عبد الرازق إستشهد بالكثير من النصوص الإسلامية - سواء القرآنية منها، أو أحاديث نبوية مُستلّة من كتب الحديث، ومن أحداث ومواقف من كتب السيرة والاخبار -التي يرى أحد النقّاد بعد قرابة نصف قرن على صدور الكتاب أنّها "جميعها أحداث تاريخية لا علاقة بينها وبين الخلافة، أو الإمامة، أو الإسلام " ( الاسلام واصول الحكم : ٤٨ - ٤٩ ).
الغريب في الأمر هنا هو هذه القدرة العجيبة على التبرّي من التاريخ، ونسفه تماماً عندما يقف داعماً لأي طرحٍ مغاير، رغم أنّه يمثّل العمود الفقري لتاريخ الإسلام!؟
--* الاسلام واصول الحكم، علي عبد الرازق، دراسة ووثائق بقلم د. محمد عمارة.