عند قراءة التاريخ، من الصعب جداً أن تجد شيئاً إيجابياً في حياة المنهزم، ويكاد المنتصر أن يكون معصوما.
***
هذه الحقيقة بحدّ ذاتها تقف ضدّ عقلانية التاريخ المكتوب، وبالتأكيد، التاريخ البشري يكشف لنا بطريقة كاريكاتيرية كيف أنّ الناس تكرّر الدور ذاته، وتعتقد به، حتى يتمّ تحميل المنهزم كلّ أخطاء لحظته التاريخية.
***
وعلى الجهة المقابلة أيضاً نجد المنتصر لا يكتفي بإلقاء أخطاء اللحظة التاريخية على أكتاف المنهزم، بل أنّ المنتصر لا يتوانى عن سرقة وادّعاء إيجابيات المنهزم بعد أن يتمّ تجريده منها.
***
لا أتحدّث عن أحداث مضت قبل ألف عام، ولا أحتاج الى ذلك، لأنّ ما يحدث في هذه اللحظة هو عينه الذي حدث هناك، والناس لا تنتبه لما تقوم به الآن، مثلما لا تنتبه حين تقرأ التاريخ، أكاد أن أسمّي ذلك ( عماء الحسّ الإنساني).
***
بعد إنقلاب تموز عام ( ١٩٥٨ ) صعد اليسار الشيوعي الى القيادة، وبقي اليسار القومي في الظلّ، كان الحسّ الديني على الهامش سياسيا، ثمّ بدأ تنافس اليسار، حتى تحوّل الى صراع دموي قاد في النهاية الى ضمور وتلاشي الحسّ المدني في العراق.
***
جريمة اليسارين ( الشيوعي والقومي) في تاريخ العراق الحديث هي إنّهما أخليا الساحة لصعود الحسّ الديني بعد أن تمّ تصفية النخب المدنية المثقّفة من كلا الطرفين، لقد تمّ التضحية بالعناصر التي كان من الممكن أن تؤسّس حياة مدنية منفتحة.
***
سَحْلُ البعثيين قاد الى سَحْلِ الشيوعيين، ثمّ ركوب منطقة وعائلة أكتاف الحزب والإتّجاه به بعيداً عن هويته الاولى، الى درجة أنّ بقايا الشيوعيين في التسعينيات كانوا يتأملون إنقلاباً من البعثيين على نظام صدام.
مشكلة اليسار العراقي إنّ قياداته كانت ظلالاً تابعة لمراكز خارجية.
***
ثمّ سقط (صدام حسين)، وبقي نظامه. تمّ تفكيك الدولة التي تأسّست عام ( ١٩٢١ )، وفُتِحَ باب تزوير الوثائق، كما فُتِحَ باب الولاءات، الولاء لعوائل كان ولا يزال دورها سلبياً في تاريخ العراق الحديث، صعد الهامش السلبي مثل عائلة الحكيم نموذجاً، العائلة التي بدأت باكورة سلبياتها بإطلاق (محسن الحكيم) فتوى تكفير الشيوعيين وإهدار دمهم، وليس آخرها ترديد الحفيد (عمار الحكيم) - في كلّ خطاب - دعوته الى العشائرية.
عائلة كرّست وجودها ضدّ الحس المدني، وكانت سبباً في إهدار دم الكثيرين بسبب الفتوى المشؤومة.
***
خلال جيلين من الزمن تحوّل الصراع السياسي في العراق من صراع بين يسارين ( شيوعي / قومي )، الى صراع بين يمينين ( شيعي / سنّي )، ومثلما كان قادة اليسار العراقي ظلالاً لمراكز خارجية، فإنّ قادة اليمين كذلك، ويبدو أنّ أزمة الدولة العراقية تكمن في أنّها منذ لحظة تأسيسها والى الآن لم تخلق قادة ليسوا ظلالاً، الى الآن، ومن أجل أن يقوم أي حزب - أو فئة - بحركة سياسية فإنّه يحتاج الى سند ودعم خارجي.
***
أزمة الدولة العراقية أنّ سؤال التحوّل فيها ليس سؤالها الذاتي، بل هو سؤال دخيل. ولهذا فهو سؤال لا يقف الى جانب الدولة بقدر ما هو ظلّ للجهة الباعثة عليه.