كثافة حياة، وكثافة تفاصيل، الى درجة ألا تجد مسامة في الأفق لتدسّ رأسك، وزمن يتملّص من يدك مثل سمكة. في هذا التضاد تجد نفسك منشغلاً بشيءٍ - أيّ شيء - عن كلّ شيء، فتفوتك الأشياء ويتسرّب العمر، إقامتك المحدودة في العالم.
***
سعة المعرفة وضيق الوقت، تريد أن ترى، أن تعرف، أن تبوح بما تتوصّل إليه، وتعلم أنّك محاصرٌ بمن حولك، ومحاصرٌ بالوقت أيضاً، فلا أنت ترى كلّ شيء ، أو تعرف كلّ شيء، ولا أنت تبوح بكلّ ما تعرف.
***
وتعلم أنّ الإنشغال بشيء، أيّ شيء، يجعلك تُقيم داخل فقاعة خارج الزمن، خارج اللحظة التي أنت فيها. الإنشغال يسرقك من الحياة، وتعلم أيضاً أنّ عدم إنشغالك بشيء هو تنازل عن وجودك في الحياة، فالفرد في النهاية هو انشغالاته الخاصّة.
***
بل تعلم أيضاً أنّ عدم انشغالك بشيء يدخلك في مواجهة مباشرة مع الفخّ الذي يلتهم الناس على الكوكب، فخّ السّعة والضيق، فيكون الانشغال - كيفما كان وبأيّ شيءٍ كان - نجاةً من الإنزلاق في شباك الفخّ.
***
قد يكون الإنشغال استغراقاً في البحث، أو إستغراقاً في الإستمتاع، وقد يكون الإنشغال إستغراقاً لا في هذا ولا في ذاك، لكن علينا أن ننتبه الى نقطة مهمّة وخطرة أن يكون الانشغال نجاةً، أن نجد في الإنشغال الطمأنينة، أو بعضاً منها.
***
الإنشغال نسيان، وما نحتاج إليه أن ننسى السّعة والضيق معاً. أن نخرج من إنزلاق الأشياء وانجراف الوقت، أن نعثر على ما يجعلنا نشعر بأنّنا نمسك شيئاً ثابتاً، حتى ولو كان وهماً.
علينا أن نخلق أوهامنا، وأن نتمسّك بها وكأنّها حقائق مطلقة. رغم علمنا بلا ثبات أيّ شيء ، ولا وجود لمطلق في الكون والحياة.
***
هكذا، تكون النجاة في التهام الطُعْم. فلا نجد أمامنا إلا أن نعلقَ بالسنّارة ، لأنّ الإقامة في الماء إقامة في الفخّ.