يحدث أن يدخل فرد ما بالصدفة ضمن حياة فرد آخر ليكون علامة فارقة على تحوّله العميق سواء على صعيد التفكير أو السلوك. حصل ذلك معي عندما كنتُ في الصف الرابع الإعدادي.
***
يومها كنتُ أقطع مسافة ثلاث كيلومترات ذهاباً وأخرى إياباً على درّاجة هوائية، فلم تكن قرية الزهيرات – على اتّساعها مساحةً، وبرغم كثافة عدد سكّانها الذب بلغ عشرين ألف نسمة قبل خروجي من العراق 2001 – أقول بالرغم من ذلك إلا أنّها لم تكن تمتلك مدرسة إعدادية، لذا كان عليّ أن أذهب الى أقرب إعداديّة لنا، وكانت في ناحية أبي صيدا.
***
كان هو مدرّس اللغة العربية، وكان اسمه علوان، ظهر فجأة واختفى، هل إنتقل الى مكان آخر؟ هل نُقِلَ الى الحرب؟ لا أذكر أيّ شيء بخصوص إختفائه، مثلما لا أذكر له أيّ شيء بقي راسخاً بخصوص درس اللغة العربية، كلّ ما بقي في ذاكرتي عنه كان حديثاً لا علاقة له بالإعدادية أو بمنهج الدراسة، لكنّه كان حديثاً عن الحياة بشكلٍ عام، وكان من العمق بحيث فتح لي أبواباً ومنافذ لم أكن أنتبه لها، أو حتّى لوجودها.
***
يبدو أنّنا كطلّاب كنّا قرويين جداً، ويبدو أنّ سلوكنا القروي داخل الصف قد أثاره، فحديثه الفجائي كان عن الخروج من حياة القرية والإنفتاح على الآخر.
قال ما معناه: "الموضوع ليس موضوع دراسة، بل كيف تتعلّم أن تعيش؟
السؤال هنا، وأنتم سواء أبناء القرى أو حتّى الذين يعيشون في ناحية أبي صيدا، عليكم أن تنتبهوا الى انّ الحياة في حالة تطوّر وتغيّر مستمر، وباعتباركم شباباً فمن المعيب جدّاً أن تكونوا بعيدين عن رؤية هذا التطوّر وهذا التغيّر.
قال: أنا لا أطالبكم بترك الدراسة، ولكنّني أطلب منكم أن تستثمروا أيّام الجمع والعطل الرسمية في الذهاب الى المدينة"، كان يتحدّث عن مدينة بعقوبة تحديداً، قال: "لا تذهبوا مباشرة الى بغداد، فهي مدينة كبيرة وزاخرة بكلّ ما هو مختلف، لكن على كلّ واحد منكم أن يستمثر يوم الجمعة في الذهاب الى بعقوبة، أقرب المدن إليكم، وهي مدخل للذهاب الى بغداد، على كلّ واحد منكم أن يتجوّل في شوارعها، وأن يشاهد تصاميم المحلّات الجديدة، أن يراقب الناس، ماذا تلبس؟ ما هي أحدث تصاميم الملابس؟ ما هي أحدث الألوان؟ قصّات الشعر؟
أن يصغي الى اللغة التي يتعامل بها الناس، وأن يقترب من لغة المدينة، حاولوا أن تكونوا قريبين من نبض الحياة الحديثة، كونوا شيئاً جديداً، تابعوا الجديد في كلّ شيء، وتبنّوه، وحين تعودون الى القرى عودوا بأفكار جديدة وبفهم جديد للحياة".
***
كان يتحدّث بانفعالٍ حقيقي، كان يريدنا أن نتغيّر نحو الأحسن والأفضل، أن نستبدل لغتنا القروية الخشنة بلغة أكثر ليونة، لغة فيها من التسامح والإنفتاح، يبدوا أنّنا كنّا فضّين جداً في التحدّث معه.
فقد تحدّث عن الخشونة والفضاضة، لكنّني لا أزال أذكر ابتسامته وهو يتحدّث عن قرويّتنا، أظنّه كان بغداديّاً.
***
لا أذكر أنّ محاضرة قلبت حياتي مثل هذه المحاضرة، لقد أصبحتْ برنامج عمل لي، فالأستاذ علوان لم يقل إقرأوا واعرفوا، بل قال: أُخرجوا واعرفوا، لقد كانت دعوته الى كسر دائرة المكان، المكان الذي يُحجّم المعرفة، وبالتالي فهو يُحجّم الحياة، قال: أُخرجوا لتتّسع حياتكم.
***
لا أدري كم مرّة ذهبت الى بعقوبة، مشيت في كلّ شوارعها، دخلت في درابينها الضيّقة، كنتُ أراقب كلّ شيء، الناس، البنايات، أعمدة الشوارع، الزخارف والنقوش على الجدران، السيارات الحديثة، والربلات القديمة، المحرّك والحصان، مأذنة جامع عمر بن الخطاب، أصبح فضولي المعرفي هو الذي يقود خطواتي هنا وهناك، ومع الوقت أصبحتُ أعرف كلّ تفصيل في المدينة، لكنّني كنتُ شغوفاً جدّاً بمحلّات بيع الكتب، الحكوميّة منها والأهليّة، بالإضافة الى المكتبة المركزية العامّة، وكنت أرتاد المقاهي المطلّة على نهر خريسان، ربّما لأنّه نهر قريتي ذاته فثمّة صلة نسب، لم أكن غريباً تماماً، مع الوقت أصبح وجهي مألوفاً لأصحاب الأماكن التي أرتادها.
***
دخلتُ في حوارات مع أشخاص غرباء، كان أكثرها رسوخاً في الذاكرة حواري مع ذلك المؤرّخ الكبير في السن - لا أذكر اسمه - الذي كان يتذمّر من كسل العاملات في المكتبة المركزيّة، لأنّه يستعير كتباً كثيرة ويعيدها بسرعة أحياناً، وهذا ما كان يجعلهن يتعاملن معه بجفاء، قال: "إنّهنّ لا يفهمن أنّ البحث لا يتطلّب منّي قراءة الكتاب كلّه، فأنا أبحث عن معلومة واحدة، خبر، أو سطر، كلّ ما أريده أن أتأكّد من وجوده في هذا المصدر أو ذاك"، كان الإصغاء إليه مهمّاً جدّاً، ولمّا لاحظ اهتمامي به سألني: "من أين أنت؟" قلت: من قرية الزهيرات. قال: فرحاً: "قرية (موزر)، لقد ذهبت والتقيت بإبنة موزر شخصيّاً".
لحظتها استغربتُ لفرحه بهذا الأمر، فابنة موزر موجودة ويمكن رؤيتها في أيّ وقت، بل إنّني رأيت (موزر) ذاته، لكنّني حقّاً لم أكن أعرف قيمة أن يكون الفرد أو اللقاء به حدثاً تاريخيّاً، ثمّ استرسل يسألني: "هل تعرف لماذا سُمِّيَت الزهيرات بهذا الإسم“؟
قلت: قيل لي أنّ أوّل من سكن القرية كان رجلاً يُدعى عبد القادر الزهيري قبل ما يقرب الثلاثمائة عام.
هنا فبدأ يروي لي ما قاله العلامة (مصطفى جواد) عن أصل التسمية وأنّها جاءت من كثرة الزهور فيها، ثمّ عرّفني بأصل أسماء أبي صيدا من السريانية (بي صيدا) والتي تعني (بيت الصيد)، أو قرية (العواشج) المجاورة لقريتنا، وكيف أنّها تشير الى كثرة نبات العوسج فيها، قلت: ولكنّ الناس يقولون أنّها تعني العشّاق.
قال: "للناس روايات وللباحثين والمؤرخين روايات أخرى".
يومها سألني عن قرية (صاطي)، قلت: إنّها قرية صغيرة مجاورة لنا، بيوتها من طين.
قال: "إنّها أوّل ما تأسّس في هذا المكان، وأنّها على اسم إبنة ملك من ملوك دولة الخروف الأبيض، وكانت قد ولِدتْ في المكان الذي سُمِّيَ باسمها، وأنّ كلّ القرى المحيطة بها تندرج تحت اسم مقاطعة (صاطي) في الطابو العام".
هذا المؤرّخ الكبير في السّن – ودون أن يدري - زرع في ذهني بذرة البحث عن أصول الأسماء، لقد رأيته مرّة واحدة فقط، لكنّها كانت كافية لتكون لحظة خصبة على امتداد حياتي الى الآن، لقد كان لقاؤه حدثاً تاريخيّاً بالنسبة لي.
***
بهذه الطريقة إنكسرتْ دائرة القرية، إنكسرت حدود المكان، وانكسرت التسمية.
هكذا خرجتُ وحيداً، بدأ وعيي يتشكّل بعيداً عن وعيي القرية، القرية التي منحتني طفولة جميلة لا أزال أحملها معي، ولا أزال أقلّب صفحاتها بين حين وآخر.
***
بعد قفزتي الى بعقوبة - بتأثير المحاضرة الهائلة للأستاذ علوان - كان عليّ أن أواصل القفز بعيداً، فكانت قفزتي الثانية الى بغداد، حدث كلّ ذلك عام 1981.
وكانت المفارقة أن تقودني خطواتي، وبالصدفة ذاتها، لألتقي بالمؤرخ الكبير عبد الرزاق الحسني ليمنحني درساً آخر في عدم تجاهل أيّ رأي، حتّى وإن كان رأياً مزيّفاً، لأنّه – وبتعبيره الشخصي – سينفعنك لاحقاً في الوصول الى معرفة كيفية كتابة التاريخ.