في لحظات الضجر في بغداد كنتُ ألجأ الى قراءة (هكذا تكلّم زرادشت)، كان الكتاب نوعاً من العلاج النفسي، (يومها، وفي حوار شخصي أخبرني خضيّر ميري أنّه يفعل ذلك أيضا)، الطاقة الشعرية للكتابة ترفع من منسوب العودة الى الحياة، والقدرة ليس على التأقلم، بل على التغيّر والتغيير، كنتُ أجدني مأخوذاً برغبة الهدم، لكن، على الضفة الأخرى، تنتصب شجرة هائلة بصيغة سؤال: ما البديل؟
***
لكي لا تنجرف في المجرى العام عليك أن تجد مجرى خاصّاً بك، مجرىً يحميك من الوقوف عارياً أمام ذاتك.
***
تفتّح وعيِّ الشخصي أيّام حرب إيران، وتحوّل الى نهاياتٍ مدبّبةٍ أيّام الحصار، وبين الحرب والحصار كنتُ منشغلاً في تأثيث معرفتي، أترك أسئلتي تسترسل راكضة في اتّجاه الوادي العميق للأفكار المكبوتة، أو الحقائق المسكوت عنها، وكان (شارب نيتشه) يقف دائما مثل مرآة صقيلة تغوي على التحديق بعمق كلّما أردت أن أفتح ضماد جرحٍ قديم. بحثتُ طويلاً في حقيقة اللغز الذي يُخفيه الشارب، أتأمّل ترافة الوجه وخشونة الشارب، ثمّة تضاد داخل وجه نيتشه، ثمّة حرب أهلية داخل الوجه، شارب لا ينتمي للوجه بصلة، ومع هذا فهو يشغل مساحة كبيرة منه، ثمّ جرفتني موجة تفاصيل الحياة اليوميّة بعيداً، وجدتّني أعمل حدّاداً في زاوية مهملة ومنسيّة من العالم الأرضي، لكنّها كانت بؤرة القلق للنظام الحاكم آنذاك، قنبلة موقوتة يمكن لها أن تنفجر دون أن تتوقّع اتّجاهاً محدّداً لها، أزمة هذه الزاوية أنّها حافلة بكلّ الأضداد المتصارعة، فهي بؤرة للشيوعيين القدامى، وبؤرة للمدّ الديني المتنامي بعد أن تمّ كبح الحسّ الإشتراكي، مثلما هي بؤرة للبعثيين المتعاضدين مع السلطة خصوصاً. تلك هي مدينة الثورة في بغداد، أو مدينة الهاربين من إضطهاد الشيوخ في الجنوب ابتداءً من منتصف الحرب العالمية الثانية. كاد الإنشغال الحياتي أن يسرقني من أسئلتي، إلا أنّ البحث ذاته ظلّ يطاردني رغماً عنّي.
***
هكذا، تجد أنّ الحياة تدفع خطواتك أو خطوات الآخرين إليك باتّجاه البحث ذاته حتّى وإن كان إنشغالك اليومي خارج مدى السؤال.
***
في واحدة من لحظات تصادم الأمواج، وصادف أنّني في التسعينيّات من القرن الماضي كنتُ أمتلك ورشة حدادة (الأسداف) في قطّاع (10) في مدينة الثورة، أن جرفتْ لي موجة أخرى زبوناً كهلاً - كان في بداية عقده الرابع من العمر- جاء يطلب تصليح حاجة منزلية، لا أذكر ماذا كانت الحاجة، لكن، الذي شدّ إنتباهي، وبقي عالقاً في الذاكرة الى الآن، أنّ الزبون الكهل كان نحيلاً بطول لا يتجاوز المئة وخمس وسبعين سنتمتراً، يمتلك شارباً منتفخاً بشكل ورم، أحالني لحظتها الى (شارب نيتشه) تماماً، كما لو أنّه توأم (شارب نيتشه)، عليّ أن أقول أنّ الزبون الكهل كان أحد معوّقي حرب الثمانينيّات (العراق/ إيران)، وكان يمشي على ساقٍ إصطناعيّة. أي أنّه كان بعلامتين فارقتين متضادّتين في آن واحد.
***
كانت صدفة تلاطم موجتينا في تلك اللحظة أشبه باستفاقة مفاجئة من نوم عميق، أثارني الزبون الى درجة أنّني اتّخذته نافذة لقراءة الوجه الخفي لنيتشه. ولأنّ (القطّاع)، أو المنطقة التي أعمل فيها كانت ذات جذور إجتماعية شعبية ريفية، تنعدم فيها الخصوصيّة، فقد كان من اليسير بالنسبة لي أن أصل الى الأسرار الكامنة وراء التدلّي الكثيف للشارب. وبالفعل تصاعد الفضول المعرفي لديّ، وتفاقم شغفي على معرفة السرّ وراء انتفاخ وتهدّل الشارب، فلم أتوانى عن السؤال. سألتُ بعض من يعرف الزبون الكهل عن أصل عوقه، مثلما سألتُ عن أصل حكاية شاربه، فجاءت النتيجة توحي بمفاتيح عديدة، قيل لي أنّه حين كان بساقين سليمتين كان بشارب خفيف معتدل، لكنّه بعد أن بُتِرَتْ ساقه في الحرب بدأ يعتني بشاربه أكثر مّما يجب، حتّى أصبح يمتلك شارباً غريباً مُلفتاً للنظر، ومعروفاً به. عليّ أن أبيّن هنا أنّ الرجل كان إنساناً بسيطاً على الصعيد المادّي، يكاد أن يكون أمّيّاً على المستوى الثقافي، ولا أشكّ في أنّه لا يعرف، أو لم يسمع بنيتشه من قبل. أي أنّه تبنّى توأم شارب نيتشه بحكم تجربته الخاصّة جدّاً وليس بحكم التقليد، وكأنّه أراد أن يجعل الأنظار تتّجه بعيداً عن ساقه المبتورة، وهذا ما حصل، على الأقل بالنسبة لي.
***
أذكر أنّني كنتُ في حالات الضجر التي تنتابني في بغداد، وما أكثرها، وما أثقلها، عندما يتملّكني فجأة إحساس بعدم الرغبة في التحدّث مع أيٍّ فردٍ كان، كنتُ ألجأ الى تلميع حذائي الى درجة أن أجعله برّاقاً، وأرتدي ملابسي دون أدنى اهتمام، ثمّ أخرج الى الشارع، كنتُ أفكّر في أنّ العيون يمكن إغواؤها وتشتيتها باللمعان وبالبريق، ولهذا كان تلميع الحذاء إحدى وسائلي الدفاعية، أو ما يسمّيه نيتشه "غريزة تأمين الوجود" (غسق الأوثان: 64)، كانت طريقة لإزاحة عيون الناس من النظر الى وجهي، وقسرها في نفس الوقت الى النظر الى حذائي، هكذا أجعلهم ينشغلون عنّي في اللحظة التي أعبر فلا يستوقفني أحد. كان بريق الحذاء علامتي الفارقة في لحظات الضجر القصوى. وأعتقد أن لكلّ فرد وسيلة دفاعه الخاصّة، أو طريقته في إشغال عيون الآخرين عن رؤيته.
***
لم أجرؤ أن أسأل الزبون عن رغبته في تبنّي مثل هذا الشارب، إلا أنّ وجود علامتين فارقتين متضادّتين في وقت واحد، كلّ واحدة منهما تشير رمزيّاً الى نقيض الأخرى، كان مفتاحاً في كشف، ليس دلالة العلامة الفارقة فحسب، بل الدافع الكامن وراءها أيضا. لقد كان واضحاً جدّاً لي أنّ إحساسه بالنقص نتيجة بتر الساق كان حافزاً له لإرتداء الشارب الكثّ ذي الدلالة الذكورية الصارخة كقناع. كان الشارب وسيلة دفاع تتواءم مع التفكير البسيط لمعنى الذكورة علاماتيّاً - كان صدّام حسين ذو الجذور البدوية غالباً ما يشير الى الشارب بصفته علامة للرجولة - يكون المراد منها أن ينشغل الآخر عن ملامسة الشعور بالنقص المختبئ وراءها.
***
حين تنشغل بفكرة ما فإنّ الحياة اليومية تعلن بكلّ يسر عن التواطؤ معك في التمهيد لإتمام الكشف، بل إنّ الأمر يبدو وكأنّ سلسلة من الصدف تعمل معاً من أجل تلبية رغبات أسئلتك النافرة، وهذا ما حصل حقّاً، فقد جاءني الزبون الكهل ذاته في مرّةٍ أخرى من أجل إجراء عملية تصليح شيء ما. المفاجأة التي لم أنتظرها حقّاً، أنّني في اللحظة التي هممتُ بإداء ما جاء لإجله، ومن دون أن أطلب منه، بدأ يقصّ عليّ كابوس ليلته السابقة، كان قلقاً جدّاً، ومرتبكاً الى حدّ الذعر، قال: "يا ستّار، لقد حلمتُ البارحة أنّ أحدهم يحاول حلق شاربي، الله يستر".
***
لم يكن شارباً عاديّاً إذن، أضاف الكابوس له دلالة أخرى غير الإعتناء بالوسامة، بل جعله رمزاً لرجولة مُهدّدة بالإنقراض والإنمحاء، الشارب هنا يأخذ دلالة القلعة التي يحتمي بها كائن يوشك أن ينهار في أيّ لحظة. كان الزبون يحتمي به من كلّ ما حوله. وبدا لي لحظتها أنّ ورم الشارب يزداد تضخّماً وانتفاخاً كلّما صعدتْ نسبة القلق والذعر لديه، لكن، هل يمكن أن يصل الضعف والخوف الى هذه الدرجة؟ أن يكون الشارب مركزاً بديلاً لوجوده السابق المكتمل، ومركزاً لهويّته أيضاً.
أذكر أنّني في تلك اللحظة لم أكن أُصْغي للزبون وهو يقصّ عليّ رؤياه وخوفه، كنتُ متواطئاً جدّاً، كنتُ أُصْغي عبر كلماته الى نيتشه، كان قلقه وارتباكه هما ذاتهما قلق وارتباك نيتشه، وجدتّني أُصغي الى نيتشه وهو يُفصِحُ لي عن ذعره من فقدان القناع. كان الزبون يخشى أن ينتبه الناس الى ساقه المبتورة، فمن أيّ شيء كان يخشى نيتشه الذي لا يتردّد في الحديث عن غريزة تأمين الوجود؟