كانت لحظة للكشف، صباحاً شتائيّاً طازجاً، الطبيعة تهيّئ نفسها لخلق لحظة خالدة. لحظة تطفو على سطح الوقت الى ما لا نهاية.
كنتُ وحيداً جدّاً، أمشي على طريق فرعي، وعلى رصيف خالٍ تماماً من المشاة، السماء - مثل فلّاح في حقل شاسع - تجمع الغيوم من أقاصٍ بعيدة، غيوم داكنة، وغيوم رصاصيّة ناصعة، كانت عيني تتأمّل ذلك وكأنّها تضع الحركة داخل إطار، هل العين إطار الطبيعة؟ لم يخطر لي على بالٍ أن يكون كلّ ذلك تحضيراً لخلفيّة لوحة تتشكّل.
***
الشارع منسيٌّ ومهملٌ، بلا أيّ علامة فارقة، ليس فيه ما يثير الإنتباه أو يسرق العين، البيوت مغلقة على أهلها، إلا أنا وغيوم تتراكم على وجه السماء، هل تحجبني الغيوم أم تحجب السماء؟
لم أكن معنيّاً بالأرض، كانت عيني منشغلة بالأعالي وهي تُعدُّ لوحتها، أتقدّم في المشي، حتّى أوشك أن أصل الى قطع منتصف الطريق المنسي، ثمّ حدث فجأة ما أربك الهدوء كلّه، زلزل قناعتي بعقم الأرض إزاء خصوبة السماء، أثبتت الأرض أنّها يمكن في لحظة مباغتةٍ أن تُخرِجَ علامتها الفارقة الى درجة أن تسرق العين كلّها، وأن تلتهم وجود السماء.
***
إمرأة بقوام مُكتنِزٍ هائل، ترتدي فستاناً بنفسجيّاً، يمتدّ الى ما تحت ركبتيها بأصابع معدودة، سيقان بيضاء تنتهي بحذاء أسود ذي كعب عالٍ، تحمل مظلّة سوداء مفتوحة تُغطّي رأسها تماماً، لم يكن ثمّة ما يجعل الوجه مرئيّا، كان حضورها غامضاً ومذهلاً في آن، ومثل نسيم باردٍ كانت تنساب نحوي.
***
اللذيذ الغامض في الأمر كلّه أنّ الطبيعة بدأتْ تعمل على جعل المشهد أكثر سحراً وروحانيّة، أخذتْ تزيح الغيوم الداكنة وتجمع الغيم الرصاصي الناصع خلفيّة لهذا البنفسج المذهل، للحظة أحسستُ بأنّ الأرض والسماء تتنافسان على سرقة عيني.
***
لشدّة إنذهالي بسحر المشهد لم أتمكن من مواصلة الخطو، وقفت على جانب الرصيف أتأمّل كلّ خطوة لها وهي تتقدّم نحوي.
كانت تمشي وكأنّها العالم كلّه، وكأن لا أحد هناك على الرصيف، تمشي غير معنيّة بأيّ شيء، تذكّرتُ العبارة التي يكتبها سوّاق الشاحنات الطويلة: "إن لم تر مرآتي الجانبية فإنّني لا أراك"، كانت عيونها محجوبة عنّي بالمظلّة، فلم تكن تراني أو تشعر بوجودي، لذا وقفت على جانب الرصيف أنتظر مرورها الخاطف المهيب.
***
وقبل أن تصل إليّ، إنحنيتُ بمستوىً يجعلني أتمكّن من رؤية وجهها المختبئ حين يعبر، إنحنيتُ للحظات بانتظار وصولها، ومع كلّ خطوة كان تداخل البنفسجي والرصاصي الناصع يخلق لوحة هائلة، لوحة تتشكّل بزاوية وإيقاع مختلف مع كلّ نبضة للكشف.
***
حين مرّتْ بالقرب منّي تفاجأتْ بوجودي المُنْتَظِر، رأتْ إنحناءتي وشغفي وتوسّلي لرؤية وجهها، فضحكتْ بعفويّة مذهلة كطفلٍ لذيذٍ، عَذْبٍ، هائل، براءة الضحكة جعلت المشهد بأكمله آسراً، جعلت الحياة أكثر دفئاً وحميميّة، فضحكتُ لضحكتها وبهجتها.
***
لقد تحقّقتْ الرغبة ورأيت الوجه. كانت إلهاً طفلاً ساحراً آخذاً، وكنتُ طفلاً مأخوذاً.
لحظتها لم أشعر إلا بأّنّني (موسى) وأنّها (الله)، لكنّني تفوّقتُ على موسى بأنّني رأيتُ وجه الله.
***
حادثة واحدة تكفي لأن تجعل الشارع حاضراً في الذهن الى النهاية، لقد إمتلك الشارع علامته الفارقة، دخل في ذاكرتي، وامتدّ الى كلماتي، وها هو يصل الى الآخرين، الباحثين عن علامة فارقة لكلّ خطوةٍ يخطونها.