أن تخرج من عرض سينمائي بفهمٍ آخر لما هو مألوف لديك ، فهذا مكسب هائل ، لأنّه في النهاية يفتح لك باباً أخرى لممكنات – معرفية أو حياتية - غابت عنك، أو تمّ تغييبها إعلاميا، سياسيّاً، أو إجتماعيّاً، حتى أصبح من غير المعقول أحيانا أن تتوقع آراءً مغايرة لما هو كائن وموجود على صعيد الحياة اليومية، حتى وإن كانت هذه المغايرة لا تتقاطع تماماً مع سياق الإعتقاد العام .
***
أن تنتج فيلماً يعكس الجانب المسكوت عنه في الحياة الإجتماعية فهذه جرأة تحسب ليس لمؤلف النصّ السينمائي فقط، بل للمنتج أيضا ، لأنّه رهان على فرس قد لا يصل خطّ النهاية أصلا، ومع ذلك فأنا أركّز هنا على جرأة المؤلف (أسامة سامي) ، خصوصاً وأنّه لم يكتف بكتابة النصّ، بل قام بتمثيل شخصيّة (علي)، الشخصية المحورية التي تطوف حولها التفاصيل.
***
يتحدّث فيلم ( زواج علي) : Ali’s Wedding عن قصّة حبّ بدأت شفّافة في المسجد بين الشاب علي / الفنان أسامة سامي) والفتاة ( ديانة / الفنانة هيلانة سواريس)، وانتهت قصّة الحبّ هذه بفضيحة في المسجد أيضاً على يد ( السيد عبد الغفار / الفنان ماجد شكر) . وهي إشارة الى ما يمكن أن يؤسّسه المسجد من معايير قيمية في مجتمعٍ منضوٍ تحت سقفه، فالمسجد بدءاً هو نافذة للتعارف الإجتماعي، مثلما هو نافذة للإنفتاح على الآخر المماثل، إلا أنّ المسجد ذاته إذا ما تمّ استغلاله بأنانيّة عالية، وبعقلية ضيّقة ، فإنّه يتحوّل الى نافذة للهدم الأسري ونافذة للتفكّك الإجتماعي .
***
أستطيع القول أنّ الفيلم إشكالي، سيثير جدلا وغباراً، فهو محاولة في قول الحقيقة كما هي، تمرين في البوح والمكاشفة، تمرين في قول الأشياء بذاتها وليس الدوران حولها.
***
كاتب نصّ الفيلم شاب عراقي، مولود في إيران، ويحمل الجنسية الأسترالية لأكثر من عشرين عاما، ينتمي لعائلة ملتزمة دينيا، فوالده كان إمام مسجد في مدينة (ملبورن). وهو عبر هذا الفيلم يسرد بعض سيرته الذاتية، بل يكشف لنا حضور العقل الديني المنفتح وتأثيره على المحيط عبر شخصية الأب ( الشيخ مهدي / الفنان دون هاني)، مثلما يعكس لنا أزمة العقل الديني المنغلق عبر شخصية ( السيد عبد الغفار / الفنان ماجد شكر)، وللتوثيق أقول: لقد برع كلّ من دون هاني وماجد شكر في تقمّص الشخصيّتين المتناقضتين. أشهد أنّني خرجت من العرض وأنا أشعر بميل حقيقي للشيخ مهدي، ونفور حقيقي من السيد عبد الغفار، وهذا لا يعني ميلاً لعمامة بيضاء ضدّ عمامة سوداء، بل إنّ الأمر يتعلّق بانفتاح العقل وانغلاقه، يتعلّق بالقدرة على تفهّم أهميّة أن يوجد الإنسان - كفرد - ضمن جماعة تعيش زمناً خاصّاً بها، دون أن ينسلخ الإنسان - كفرد - من تجربته الذاتية في فهم الحياة والتعايش معها أيضا، ولأنّ الفيلم مأخوذ عن سيرة ذاتية فإنّ المؤلف كشف لنا وفق تجربته الذاتية كيف كان والده ( الشيخ مهدي) صاحب العمامة البيضاء منفتح العقل، أريحيّاً، محبوباً من قبل رواد المسجد، فالفيلم إذن لا يُعمّم الرؤية بقدر ما يروي قصّة حقيقية خاصّة، وأعتقد أنّ مشاهدة الفيلم بعقلية منغلقة ستقود الى إنتقادات لا تبرير لها سوى الإنغلاق .
***
أحاول في هذه المقالة أن أركّز - ليس على قصّة الحبّ رغم ما فيها من تفاصيل مشوّقة ومحزنة في نفس الوقت ، بل أركّز - على شخصيّة الشيخ المنفتح على صعيد العقل والسلوك، وما حقّقته من إضافات إجتهادية ذكيّة تشير الى فطرة تتكيء على صفاءٍ فكري ونقاءٍ إنساني خالص.
***
يحاول (الشيخ مهدي) جاهداً أن يحمي التآلف الأسري ليس داخل جدران بيته الخاص، بل داخل نطاق المجتمع الإسلامي المحيط به، فنراه في مشهدٍ مهمٍّ جداً وهو يحاول تهدئة رجل آخر طلّق زوجته ثلاث مرات في ثوانٍ معدودة عبر ترديده في لحظة غضب عبارة: "أنت طالق طالق طالق"، قائلاً له: "هل إستحممت بعد أن قلت طالق للمرة الأولى ثمّ قلت طالق للمرّة الثانية، وذهبت واستحممت مرّة أخرى ثم قلت طالق للمرّة الثالثة؟"، مستعيناً بشاهد حي، إنفعال المعلّق الرياضي وهو يصيح هدف هدف هدف، "فهل تكرار الكلمة هنا يُعدُّ هدفاً إضافياً أم أنّه هدف واحد لا غير؟ ". هذا مشهد واحد من مشاهد كثيرة تفصح عن قابلية العقل المنفتح على إحتواء إشكاليات فقهيّة قديمة هدمت بيوتاً وشرّدت عوائل بسبب ضيق عقلية متبنيها. وكإضافة على هذا الإجتهاد الذكي أقول: كان بإمكان الشيخ مهدي أن يقول للرجل أيضاً: إنّك حين ترمي كلمة الطلاق الأولى ، تكون المرأة طالقاً، وبهذا تسقط فاعلية كلمة الطلاق الثانية لأنّ المرأة لم تعد زوجتك أصلاً، فكيف تطلّق امرأة هي ليست زوجتك؟
***
قلت هذا مشهد واحد ، لأنّ هناك أحداثاً عديدة داخل الفيلم تشير الى قدرة العقل الديني المنفتح على فهم الوضع الإجتماعي الراهن والتكيّف معه دون أن يقود ذلك الى خروج من ملّة أو عقيدة.
***
لقد كان (الشيخ مهدي/ دون هاني) ثورياً حين استخدم المسجد ليكون مسرحاً ، فاتحاً بذلك نافذة على الجذر البعيد للمعبد السومري، حين كانت الطقوس الدينية تؤدى عبر مشاهد مسرحية، ولا تزال جذور طقوس التشابيه الحسينيّة تنغرس عميقاً في التراب الرافديني القديم.
***
إزاء هذا الإنفتاح كان هناك إنغلاقٌ معتمٌ، حاسدٌ، تدفعه الغيرة الى أن يقوم بكلّ ما يمكن أن يسيء، أو أن يؤذي، جسّدته شخصية ( السيد عبد الغفار/ الفنان ماجد شكر)، إنغلاقٌ لا يتوانى عن التشهير بالآخرين، ولا يهمّه أن يتفهّم أيّ شيء - بحسٍّ إنساني - بقدر ما يهمّه أن يعتلي المنبر ، إنغلاقٌ باحث عن السلطة والسيادة ، متّكئٌ على النسب ليس إلا، رغم أنّ جوهر الدين قائم على علاقة فردية بين الفرد ومن يعتقد، علاقة تسقط الأنساب فيها ، فلا أنواط شجاعة على صلة النسب ولا امتيازات.
***
بين هاتين الشخصيّتين كانت هناك شخصيّة الرجل الإنتهازي ( أبو فيصل / الفنان غازي الكناني)، الذي يحاول إستثمار النوافذ المتاحة شرعاً. رجلٌ باحثٌ عن المتعة. متزوجٌ من ثلاث نساء منقّبات، ويسعى لإكمال العدد الشرعي. لا يريد أن يخسر علاقته بأيّ كان، يحاول أن يُرضي الأطراف المتضادّة، فهو يحبّ الشيخ مهدي، ويتبع السيد عبد الغفار من أجل الحصول على أخته كزوجة رابعة.
***
لقد حضرتُ عرض الفيلم لمرّتين، وأظنّني سأحضر عرضه ثالثةً ورابعة، فالفيلم ممتلئ بأحداث تلامس تأريخنا الشخصيّ، فهو يتحدّث عن السجن والهجرة ويتحدّث عن إنكماش الذات على ما تعرف أو إنفتاحها وإندماجها مع العالم الجديد، لكن بهويّة باحثة عن ذاتها في كلّ هذه الأحوال والأمكنة.