أحاول أن أتقمّص دور أعمى، أن أتجوّل في ظلام تامٍ، وأن أتعرّف على المحيط من خلال الصوت والرائحة.
عالم أظلم، وسيبدو غريبا حين يقول لي أحدهم أنّ ما تراه هو اللون الأسود، ماذا يعني بالأسود؟
الألوان تتحقّق حين يكون هناك ثمّة ما يقابلها، وأن تكون مولوداً أعمى،
فإنّ ذلك يعني أنّك لا تعرف من الألوان حتى الأسود.
سيكون الأسود كلمة يردّدها الآخرون وأحاول إسقاطها على الحالة التي أنا فيها،
لكن ماذا عن الألوان الأخرى، لن تكون سوى كلمات أحفظها وأردّدها، لكنّني سأقف عاجزاً - مثل الضرير توم - عن إستيعاب أن يكون الماء عديم اللون وأن يكون لون البحر أزرق في نفس الوقت!؟
***
أتقمّص دور الأعمى، أجرّب أن أنتمي لأصوات الأشياء التي تحيط بي، لدرجة الحرارة، وللروائح التي تنبعث من هنا وهناك.
أن تكون الأذن النافذة الأولى للعشق تماماً مثل (بشار بن برد):
"يا قوم أذني لبعض الحيّ عاشقةً
والأذن تعشق قبل العين أحيانا"
***
وأن أستلقي لأنام فيغزوني حلم لا على التعيين، أراني فيه كما أنا في اليقظة تماماً محاطاً بأصوات وروائح ليس إلا، يمكنني أن أسمع أصوات الموتى وهذا ما يجعلني أفهم أنّني في حلم، لقد ذهبوا والى الأبد، ثمّ ها هم ثانية يجيئون.
***
الحلم للأعمى ليس سهلاً، قد يكون مخيفاً مُربكاً لا أعرف ردّة فعل الأعمى إزاء الحلم،
لكنّني أعرف أنّه يواصل وجوده في ظلامٍ تام.
حلم الأعمى محض أصوات وروائح وحرارة أو برودة، الأعمى لا يرى في الحلم صوراً، لا يرى أشكالاً، فليس في ذاكرته صوراً ولا أشكالاً،
وهذه نقطة إعتراض ضدّ " اللاوعي الجمعي" الذي قال به كارل غوستاف يونغ.
هكذا، ظلام اليقظة يطارده داخل النوم.
هناك ليل ونهار، لكن لا علاقة لهما بالضوء، إنّهما إمتداد واحد، إلا أنّ الأعمى يعي أنّ الشمس هناك، لأنّه يتحسّس حرارتها.
***
وبالتأكيد فإنّ الأعمى قادر على فهم تجربة أعمىً آخر بطريقة أكثر عمقاً من أيّ بصير، ولعلّ تجربة (طه حسين) في قراءة النتاج الشعري (لأبي العلاء المعرّي) خير مثال على ذلك.
إنّه يتحسّس مقدار الإضافة والإبداع، ويعرف تماماً أماكن الترديد الببغائي، ليس على مستوى البصر، بل على مستوى السمع فقط.
***
لقد كان المعرّي رائياً حين قال:
" وبصيرُ الأقوامِ مثليَ أعمى
فهلمّوا في حِندِسٍ نتصادم ".