1
منذ ان وعينا الحياة وهم يزقوننا أقاويلهم التي تتحدث عن الوضوح والمقاصد الواضحة والغايات الواضحة والرؤى الواضحة التي هي أكثر اشراقا من النور، لكنهم يتداولوننا في ظلماتهم ويستنسخون الظلمات فينا حتى أصبح الظلام وضوحنا الذي لا لبس فيه وهو الذي يقربنا من أنفسنا كثيرا!
الجميع يتحدث عن الوضوح، تلك الاسطوانة المشروخة التي تكتب أيامنا وذلك ما نسمعه كل آن، حتى لتبدو حياتنا صافية لا تشوبها شائبة وكأننا نبصر أيامنا القادمة في مرآة صقيلة!
فقد اتضح المضمر وانجلى الغبار وكل شيء يدعوك اليه في الهواء الطلق!
ذلك الوضوح الأكشر، لم يكن شيئا واضحا على الاطلاق!
نحن أبناء المعميّات، ما عميَ علينا نحسبه على خانة الوضوح.
نظن أنفسنا نقلّب الأشياء على بطانتها ولكن ليس ثمة بطانة، نحن قشور الزمن التي تذروها الرياح..
لا وقت عندنا لمراجعة أنفسنا، المراجعة تتطلب المعرفة ونحن براء منها!
نسوق الأرتال الى نهايات ملتبسة، الالتباس وضوحنا. نجنّد المُعطى للاجهاز على ما تبقّى، ثم نحصي الخسائر بتلذذ وكأننا قمنا بالمهمة على أكمل وجه! نرهن أيامنا وكأننا مقامرون من طراز استثنائي، لا مجال للنصح والنصيحة والانتصاح، لا شيء إلاّ المضي قدما في هذا الوضوح المزعوم!
نستدرج الهتافات الى تلك الخبصة التي تسمّيها مدوناتنا بالمسيرة، ولكن أية مسيرة؟
الوضوح الذي قدّمنا القرابين من أجله هو خيبتنا وأفكارنا الملفّقة.
الذي بدا واضحا لنا هو نهايتنا المفجعة، تلك التي نطليها بالأصباغ اللمّاعة.
أصبح وضوحنا في الوهم اكثر منه في الحقيقة، بل أصبح الوهم مادتنا التي نشكل منها ما نشاء لأيامنا القادمة.
مابدا واضحا لنا لم يتضح لسوانا، وهكذا أحرقنا جميع السفن خلفنا باتجاهه!
وحده المعتوه يصفق لسراب أيامه وهو يرى ما لا يراه غيره.
2
مادام الأمر واضحا لماذا لا نرضخ لوضوحه، هكذا تبتدئ الخديعة عندنا، ثم تسوّق على انها حقيقة نهائية!
شيخوختنا هي ذلك الوضوح المتنكّر، الذي يتطفل على الأشياء فيجعل بيننا وبينها غشاوة.
اختلفنا في الوضوح، فكل واحد يعطينا بيانات تخصه ولا تخص الوضوح، فلا نعرف عمَّ يتحدث وهو مستغرق في مونولوجه الداخلي ولا يريد لأحد أن يقاطعه، يريد أن يمضي بنا الى جهاته ليقول لنا في نهاية المطاف: لقد بلغنا سدرة المنتهى فهل هناك وضوح أكثر من هذا؟
الشيء الواضح فينا هو أمراضنا المزمنة التي نتنكر لها ولذلك نتساقط قبل الأوان!
ليس ثمة وضوح ولا أشياء واضحة، هناك فقط لصوص يسرقون ضوء النهار وهذا هو الوضوح الذي يعنيهم!
في زمن الشبهات يصبح كل وضوح أكذوبة، ومن هذه الأكاذيب تُصاغ المعتقدات التي ترسم لنا الطرق الواضحة كما يزعم أدلاؤها!
نحن من يغلّف الأشياء الواضحة ويتفنن في تعميتها، فالوضوح يعمي أبصارنا، يقلقنا، يربك حواسنا ويقودنا الى منطقة انعدام الوزن، واذا ما قيست الأشياء بالأوزان، فنحن بلا وزن، بلا ثقل حقيقي، مجرد كتل طافية على مستنقعات ذواتها.
نحن لا نستفيق الا بالرجّات القوية، الرجات التي توقظنا غالبا عند حافة الهاوية، لنكتشف ان كل شيء قد ضاع منا في لمح البصر.
لم تكن الأمور واضحة لنا يوما ما، الوضوح لا يعنينا حقيقة، ولكننا ندّعيه لنطرد عنا اتهام الآخر لنا باننا نتخبط خبط عشواء واننا على احاطة تامة بمجريات الأمور وان كل شيء تحت السيطرة!!
مادمنا أبناء الدوامات الرملية والمسالك المعمّاة والصحارى التي بلا نهايات والأفكار التي اشتبهت على التاريخ والهتافات التي لا تعرف ماذا تريد فلا يوجد شيء واضحا لدينا! في كثير من الأحيان نزجّ أنفسنا في مناوشات تستنزف منا الكثير دون أن يتضح لنا الخيط الأبيض من الخيط الأسود!.