1
لم أره يرثي قتيلا في يوم من الأيام، وليس من طبيعته أن يواسي عائلة ميّت!
فالموت كما يبدو لا يعنيه وهو غير منشغل به. ولكن ما ان قُتل أحد أبنائه حتى انقلبتْ الدنيا عنده، وأصبح العالم سبورة سوداء يكتب عليها مرثياته، فكأن الموت لم يأخذ من قبل أحدا من البشر!
ولكن موت ابنه أوقفه أمام الموت، وعلى المرئيات والموجودات أن تستذكر ابنه كل لحظة، وإلاّ فما الموت في حقيقته إن لم يكن موت هذا الابن؟
بموته توقف الزمن وأصبحت الحياة لا معنى لها، أما موت أبناء الآخرين، بالنسبة له، فتلك سنة الطبيعة وسنة الأولين والآخرين!!
هذا هو حال الكثير الذي لا يبصر حرائق الآخرين طالما هي بمنأى عنه، لا يهمه إلاّ ذاته وخاصته الذين معه، وليذهب الغير الى الجحيم.
لم يأبه للأذرع الملوحة وهي تستغيث به، ولم يحرك ساكنا طالما كان بمقدوره ذلك!
جنائز لا عداد لها مرت من أمام بيته فلم يكلف نفسه عناء الانحناء لها اكراما لهيبة الموت، بل ولم يتعب نفسه بالسؤال عن الضحية!
النظر بعين واحدة يضبّب الرؤية ويحجز الكثير من الحقائق التي تبقى عالقة في سراب العقول.
نهرّب القتلة عندما تكون جرائمهم لا تمسّنا، أما اذا طالت واحدا من أخوتي أو أبنائي فعليّ أن أحشد كل جهات الكون للقبض عليهم!
يبدو ان صمتنا المبالغ فيه في كثير من الأحيان، ليس حكمة، وانما هو نوع من أنواع التواطؤ، علينا أن ندفع ثمن هذا التواطؤ عاجلا أم آجلا!
لا نعلم ان كان صاحبنا هو نتاج الغموض الذي يجتاح أيامنا أم انه جُبل من طينة أخرى لا تنتمي للانساني فيها. تضيق الأيام عنده وتتسع تبعا لرخائه فيها، ذاته هي القياس ومنفعته هي المقياس.
2
ربما يؤاخي، صاحبنا، الذئب ويلتمس له أعذارا وهو يفترس ضحاياه عازيا الأمر الى انه ضحية غرائزه المتطرفة، اما اذا اقترب الذئب من بيته والتهم فردا من أفراده، فتراه يلعن الظلام المحوّم حول المدينة والذي كان سببا في استقدام هذا الذئب!
العين الواحدة، هي العين الاقصائية، الالغائية، التي تجتزئ المشهد دائما وتحذف منه مالا تريد أن تراه، لا تريد ان تستطرد في أشياء لا تخصها، ما يخصها هو ذاتها وهي عين ذاتها.
العين الواحدة لا تقلّب الأمور على أوجهها وانما على الوجه الذي تشكّل فيها، وغالبا ما يكون هذا الوجه له علاقة بالأثرة والاستئثار.
انه لا ينظر إلاّ الى مرآته، وينبغي على جميع المرايا أن تعكس ما يراه هو في مرآته.
تلك العقول هي سبب بلاء المجتمعات، فليس إلاّ الأنا المتقوقعة حول نفسها، الأنا المريضة، التي تستحق الشفقة.
العين الواحدة بلا شفاعة ولا شفيع، لا ترى الخارج كما هو وانما طبقا لمواصفاتها، تلك العين لا ترجّح أي احتمال لأنها مهووسة باحتمالها وحده، بخرم الأبرة الذي لا تود مغادرته، انها حارسة لنفسها، لقلعتها الوحيدة وهي لا تنظر الى الشمس إلاّ حين تكون في مركز هذه القلعة والغيوم التي تتشكل حولها اعتداء على موجودات القلعة، بغض النظر ان كانت ستسقي الحقول المحيطة بها!
كيف تتكتم الذات على أنويتها بهذه الصرامة المفزعة ولا تمنح الآخر نافذة ليتشاركا الهواء سويا؟
ليس ثمة جواب، هناك طبقات من السخام ينبغي أن تُنبش، أورام بحاجة الى استئصال..
حين تناهى الى أذنيّ عويل صديقي، تبيّن لي انه لم يبكِ من قبل، وأقسم بأغلظ الايمان على ذلك، كان عويله أشبه ببركان لا تعرف كيف استجمع فورته تلك؟!
كان يريد مني أن أواسيه في كل لحظة مادمتُ بقربه، وأن أتلو عليه جميع القصائد التي قيلت في الرثاء، فجميع مقابر الكون ينبغي أن تُسمّى باسم ابنه، وكل غاية الموت هي أن تختطف ابنه وحده، السابقون واللاحقون لم يكونوا وجبة الموت الحقيقية، ابنه وحده هو الذي أطعم الموت!!.