1
كتب لي صديقي القديم قائلا: منذ عشرين سنة وأنا لم أسمع عنك شيئا، وقد عثرت عليك مصادفة في الفيسبوك، أين أنت يا صديقي؟
فكتبتُ له:
- أنا هنا الى جوار نفسي التي ملّتْ جواري، أنا هنافي الذاكرة التي لا ينقطع نزيفها، في الزمن الذي يجردنا مما نحن فيه، فقد سئم تراكمنا عليه.
أنا هنا ولكن الحقيقة انني لستُ هنا، الجثة وحدها تقول أنا هنا.
ليس بمقدوري أن أقول لك انني في مكان معين، فأناأغيّر عنواني كل يوم، لا أريد أن أتعفن في العناوين، فكيف الهروب منها؟
أنا يا صديقي، اترك "الهنا" لمن يتحدثون عنها بنزعة وثوقية،أولئك الذين يمجدون نشيد الأقفاص.
كنتُ تائها في فيما مضى، أمشي بلا هدى، في أخريات الليلكانت الكلاب السائبة تطاردني في الطرق الموحشة والأزقة، كلاب شرسة، ومن حسن حظي انها كانت تكتفي بعضة واحدة، لا تجد لحما لكي تنهشه، كان جلدي ملتصقا بالعظم.. ومن كثرة مروري في هذه الأزقة عرفتني هذه الكلاب وكانت تكتفي بهز ذيولها وكفّتْ عن مهاجمتي.
كانت الكلاب تقول لي: اننا هنا.. وكنت في قرارة نفسي أقول: كلنا هنا، ولكن ما معنى هذه "الهنا" التي يدّعيها الكثير من العابرين؟
ليس هناك طلاء لأحتمي به، الكائن بحاجة الى طلاء لكي يعرض نفسه على الواجهة!
هل تودّ، يا صديقي،أن تراني بصورة أخرى، بقيافة من الزرق ورق، لا تمت إليّ بصلة؟
مازالت نفس الكلاب تطاردني أينما حللتُ، كلاب تتخذ هيئات شتى، وأشدّها الأفكار المستكلبة، وكنت أرى في مطاردتها لي،أيامي الضائعة وهي تتسرب من نباحها.
هل تريد أن ترى الكائن الذي عرفته فيما مضى، أم الكائن الذي لا يعرف نفسه في هذه الحفلة المشبوهة؟
في الأيام الخوالي كنا معلّقين في فراغ كبير وكانت الدوامة تقلّبنا، هل تستطيعأن تخبرني أين كنا وأية " هنا "كانت تشير الينا؟
2
المكان الذي يحتويك لا يشبه المكان الذي تحتويه، المكان الذي يجبرك على أن تحمل أثقاله يقول لك بسخرية مريرة: عليك أن تتخلص من هذه الأثقال لكي تقول: انني هنا.
هل كان بامكانك أن تقول: انني هنا، وأنت مجرد كتلة لحمية تتقاذفها ملاجئ الحروب والسواتر الأمامية والمفخخات والرعب اليومي؟
هل بامكانك أن تقول: انني هنا.. والخطوط الحمر تطوق البيوت جميعا؟
وحدها وجوهنا التي تشبه شواهد القبور تقول: اننا هنا.
كنا نتقدم في الهناك وليس في الهنا،أعني الى المقبرة وليس الى الحياة.
حتى كلمة وطن أصبحت ملتبسة أكثر مما ينبغي، فلم يمنحنا يوما فرصةأن نقول: "نحن هنا".. كان طاردا لنا على الدوام.
سنرحل عن الوجود ونحن لا نعلم أين نحن وأية "هنا" نليق بها، فقد أصبح من العبث البحث عن "هنا" تليق بنا!
هناك أسئلة قاتلة لا يهدأ لها بال إلاّ حين تسمع اجاباتنا المقتولة، أسئلة من طراز عدواني، غالبا ما تغلّفها لياقة ما،أسئلة تهيّج خصومتك مع نفسك، أسئلة لن نتعافى منها أبدا طالما انها تورطك في كل سراب يلوح في الأفق.
الكثير منا يستطرد في الاجابة ويسرف في رواية الاحداث والوقائع، ظنا منه انه يتحدث عن "هناه" التي أشبعها حضورا ومنحها كيانه وكينونته!
اننا مرضى الأمكنة، نحاول دوما أن نبدو أصحّاء فيها ونتغافل عن ذلك الذي ينخر فينا ثم نسقط سقطة مفاجئة تجعل الآخر يشك بكل تاريخنا.
صديقي ينتظر الجواب وأنا لم أرسله له بعد.. وما كتبته أعلاه مجرد مسودة.. انه ينتظر على الجانب الآخر من "الهنا"، في نصف التيه الآخر،سيقول لي وأقول له ونغرق في الأقاويل التي لا تلم شتاتا ما وانما توسعه.
ما نقولهمحض فقاقيع يتسلى بها نهر الزمن في جريانه، هل من الحكمة أن نتشبث بها ونؤسس عليها مواقف؟