لسنة ونصف كانت كلبتي (روكسي) تشاركني التجوّل بالسيارة، تصاحبني الى متنزه (بارماتا) حيناً، أو الى بحيرتها في أحايين أخرى ، كانت تجد لذّة بركوب السيارة، هكذا تجلس في الصدارة، وتخرج رأسها من النافذة ، بل كانت تنتفض بشدّة لو أن أحداً جلس في المقعد الأمامي وتركها في الخلف، كانت تنبح الى أن تستعيد مقعدها، هكذا، " لنا الصدر دون العالمين أو القبر "، تجلس بالقرب منّي، ثمّ تُخرج رأسها من النافذة، تلك لم تكن طقوساً، بل كانت حقوقاً، وكان علينا - كعائلة - أن نراعي ذلك، بل كنّا منقادين طوعاً - أو قسراً - لجعلها تحصل على ما تريد.
***
ولأنّها ترافقني التجوّل بالسيارة فهذا يعني أنّها كانت تشاركني الإستماع الى الموسيقى، وغالباً ما يكون بيتهوفن هو الإختيار الأقرب الى الذائقة، وبفعل التكرار أصبح جنون بيتهوفن مألوفاً لسمعها، كانت تخرج رأسها من النافذة، لكنّها تصغي في نفس الوقت لصخب الحركة الأولى في السمفونية الخامسة، وأظنّها كانت تستوعب - لمستوىً معيّن - هدير كورال السمفونية التاسعة، وفوق كلّ ذلك، كانت تراقب صعود ونزول إنفعالي الشخصي مع صعود أمواج الموسيقى ونزولها، ولم تكن تندهش لصراخي مع الكورال، بل أصبح صراخي أثناء السياقة ليس غريباً، بل جزءاً من توقّعاتها، لقد بدى وكأنّها تفهم المناخ العام لانجرافي.
***
في إحدى المرّات، كنت أقود السيارة، وكانت هي برفقتي، راق لي كالعادة أن أصغي لبيتهوفن، لكن عند منتصف صراخ الكورال، ولسبب غامض، أحببت أن أسمع بعض أغاني (سعدي الحديثي)، مثل أغنيته "يلجفنت سلمان أحو جفنه بجلد بز "، هكذا أن أصغي لإيقاع الطبل، كما لو أنّني أردتُ أن أخبرها بجذري القروي، وبحنيني الغامض لرتابة الإيقاع البعيد، وبالفعل أخرجت (سي دي) بيتهوفن من الريكوردر، ووضعت (سي دي) سعدي بدلاً منه، كانت (روكسي) لحظتها قد أخرجت رأسها من النافذة تستمتع ببرودة الهواء ، لكن، ما أن بدأ إيقاع الضرب على الطبل، وكنت قد رفعت شدّة صوت الريكوردر، حتى أدخلت رأسها كمن أصيب بصدمة كهربائية، وحدقّت بي باستغراب هائل، لم أتمالك نفسي من الضحك لمشهدها، كانت تنظر لي وكأنّها تقول: إنت من كل عقلك؟
ضحكتُ بطريقة لم أكن أتوقّعها، بينما كانت تنظر لي وكأنّها تقول: ها تخبلت؟
ما معنى صراخك إذن إن كنتَ قادراً على الإنطواء تحت إيقاع طبل؟ لكنّها أمام ضحكي المنفلت، إستدارت، وكأنّها فقدت الأمل تماماً، ثمّ أخرجت رأسها من النافذة.
***
الآن، وقد مضى على رحيل روكسي ثلاث سنوات، ما أزال أخلط إيقاع الطبل الريفي، الذي يحمل دلالة طقسية حلقيّة صارمة، بهدير كورال السمفونية الريفية، الذي لا أستطيع أن أفهمه خارج نطاق الإحتجاج والإعتراض وتحطيم الأُطُر، إحتجاج ضدّ أخطاء كثيرة في برمجة الخلق.
لكن ألا يبدو الإحتجاج المتواصل ضرباً من الإيقاع الرتيب؟