الاغتراب للفنان هو الخط الاحمر والذي يقف على عتبته كل فنان عن مواصلة وقائع مايحدث في الوطن، لكن علاقته بالوطن تبقى عبارة عن انتمائية بالماضي وجذور منحته هوية الانتماء وبناء علاقته حميمية بالوطن، واكتسب من هذه الجذور مسيرة مليئة بالوقائع والتجارب الحياتية من معايشة هذا الواقع واكتساب خبرة وتجارب تنتهي نتائجها عند مغادرة الفنان للوطن والاغتراب عن اهله ومجتمعه ليبتعد في الوقت نفسه عن العادات والتقاليد التي ترعرع عليها وعاشها ليعيش غربة المهجر عند دخوله الى عالم غريب عن انتمائيته وعلاقاته الاجتماعية والثقافية والدينية لربما.
ويبقى هذا الحنين للوطن وبكل تفاصيل حياته السعيدة والماساوية والتي اكتسب منها مايجعله ان يكون مراة ليعكس ما اكتسبه من الاحداث والوقائع الحقيقية التي عاشها وتمخضت عن حكايات قصصية وادبية تخلق منه اداة توصيل للمجتمع غرضه من هذا توعيته وتسليط الاضواء على اهم مستجدات الاحداث للاجيال الحاضرة واللاحقة لخلق حالة من الرفض والثورة والنهوض بالواقع الاجتماعي، وهذا لا ياتي الا من خلال معايشة الانسان الفنان لهذا الواقع الذي يعيشه، حيث تلعب عواطفه واحاسيسه بمصداقية المشاعر مع المحيط الذي يعيشه ليتمخظ هذا التعاطف عن رغبة لخدمة الانسان ونشر الثقافة والوعي الفكري من خلال عطاءات الفنان الادبية والفنية والمليئة بوقائع الاحداث المعاصرة لتجسيدها في صور تشوبها جمالية التعبير بصيغ ادبية وفنية، واسباب هذا تعود الى الانتمائية التي يحملها في ذاته والمتعاطفة مع الواقع الذي يعيشه متمخظة عن مشاعر واحاسيس تدفعه لخدمة المجتمع هدفه التغيير والتطوير بثورة تدعو الى رفض كل ماهو كلاسيكي وقديم، او قد تكون ثورته على الظلم والاستبداد ومحاربة الطبقية والطائفية والتي فككت روابط العلاقات الانسانية، فصور التغيير وجمالية محاكاتها وتطبيقها على الواقع الذي يعيشه لا تاتي الا من خلال تجربته الذاتية لتصبح جزءا من معاناته والتي يعيش ماساتها والتي تتمخظ عن قوة رهيبة جامحة لاختراق حاجز الجدار الذي يفصل مابينه وبين حرية التعبير عن افكاره بردود افعال يراها صائبة كبدائل للتغيير تاتي من خلال رؤية ناضجة يحيك احداثها بتفاصيل مشوقة تعبر عن ارائه ومبادئه التي يؤمن بها ليستخلص من نتائجها نتائج ماساوية او مفرحة تخدم المجتمع المتلقي، هذه الحقيقة التي يعيشها الفنان في الوطن وهو خير من يمثل ويجسد هذا الواقع لانها تاتي من خلال المعايشة الحقيقية والواقعية، محاولا من هذا طرح البدائل وعن طريق مايقدمه هذا الفنان من صدق المشاعر والاحاسيس عن طريق الحكايات والقصص من الروايات والنصوص المسرحية.
هذه الوقائع والاحداث الذي يجسدها الفنان او الاديب والذي يملك الانتمائية الحقيقية هو خير من يستطيع التعبير عنها باساليب فنية فيها شيئا من الخلق والابداع والمهارة الحرفية في العطاء ويتفانى من اجل طرح افكاره والتي يراها البدائل المناسبة للتغيير والتطوير باسلوب مشوق فيه من جمالية التعبير بالوسائل والتقنيات الفنية الحديثة والتي تثير عنصري التشويق والشد لدي المتلقي.
ان الاسباب الحقيقية والتي مهدت لروادنا من الفنانين والادباء في التعبير الصادق والحقيقي والواقعي عن هذه المعانات، هو الالتصاق بالواقع نفسه ومعايشته اضافة الى الانتمائية الحقيقية للطبقة المسحوقة والذي عاشوا تحت وطأة الظلم والتعسف، ولهذا تمخظت هذه المعايشة عن قصص وحكايات هي من صلب واقع المجتمع باروع صورها ولا سيما انها كانت تمثل الشريحة الاجتماعية الشعبية من الطبقات المسحوقة والمعدمة كما جسدها العديد من الادباء والفنانين الرواد من امثال ادمون صبري ويوسف العاني وعادل كاظم وطه سالم والعديد من من هذا الرعيل الذي عاش ماساة شعبه طرحوا افكارا من شانها معالجة الواقع المرير ببدائل وحلول ساهمت في التغيير والتطوير ونقل الواقع الاجتماعي الى واقع افضل بتفاصيل يومياتهم واحداث ظروفهم الاجتماعية والسياسية وحتى الدينية.
ولكن عندما ينتقل هذا الفنان او اي فنان او اديب ويهاجر الى بلاد الغربة، اي الى المهجر سيعيش عالما غريب عن واقع حياته الاجتماعية من قومية ولغة وعادات وتقاليد، مسطدما بالواقع الغريب، حيث سيعيش الغربة والاغتراب في واقعه الجديد من مفاصل الحياة الواقعية والاجتماعية.
ولهذا يبقى هذا الفنان متعلقا بالصور الحياتية لانتماءاته الوطنية الذي عاشها في الوطن بردود افعال داخلية تعكس معاناته ومشاعره وحنينه الى الوطن، وقد يصاب بمرض خاص ومشاع اسمه مرض (الهومسك) Homesickness هذا المرض يصيب الانسان الذي يغادر وطنه فيشعر بالضيق النفسي والكابة والقلق والاكتئاب العصبي ولاسباب عوامل منها: غربة اللغة والعادات والتقاليد غربة المناطق وولاياتها وسكانها وجهله في كيفية التعايش مع ظروف واجواء غريبة عن واقع انتمائيته، ومن الصعوبة ايضا ان يتمكن اي انسان معايشة الواقع الجديد دون المرور بازمة نفسية وعزلة عن الواقع الحالي ليبقى سابحا في ذكريات عالم الماضي في الوطن.
فالشريحة من كتابنا الروائيين والمسرحيين لا تفارق انتاجاتهم الادبية عناوين الغزل بالوطن والتذمر من الغربة ومن الواقع الجديد، ويلعنون الظروف القاسية والتي ساقتهم الى الاغتراب والابتعاد عن وطنهم (على كولة المثل، اشجابك على المر غير الامر منه) والتعبير عن الغربة هي العناوين الرئيسية التي تحتل انتاجاتهم الادبية معبرين من خلالها عن هذا الانتماء الذي يعيش في وجدانهم، ويبقى في منهاجه الادبي متواصلا مع مجتمعه وشعبه ووطنه وهو في المهجر، حيث تبقى جذور الانتمائية تعيش في ذاته وانسانياته، ولا يمكن لمثل هؤلاء الفنانين والادباء الانسلاخ عن واقع وطنهم ومجتمعهم، ولهذا لا يمكن لمثل هؤلاء التعبير عن واقع المهجر بواقعيته ومشاكله الاجتماعية من دون الانحياز للماضي ومقارنته مع الواقع الذي يعيشونه في المهجر، انما هناك حالات من الاحاسيس والتي تولد مع الفنانين والادباء في المهجر، وهذه الظاهرة قلما ندر حينما يبدأ مثل هذا الرعيل باكتساب بعض التجارب والخبرات الحياتية في المهجر، ونتيجة لهذا الواقع الجديد بكل ما يحيطه من ظروف الحياة الثقافية والاقتصادية والتي قد لا تمكنه من المعايشة معها، انما هو لا يمكنه ان يقف مكتوف الايدي ومن دون ان يعبر عن هذا الاغتراب بصور انتقادية وقد تكون مليئة بالاستهزاء والاستهجان ومقارنتها مع ماكان عليه في الوطن، هذه الازدواجية التي تخلقها الظروف الجديدة في الواقع الجديد لا تمكنه من الاستقرار على مبدئية المعايشة الجديدة لانه يعيش الغربة ولهذا نشاهد ان معظم انتاجات ادبائنا والفنانين المسرحيين لايمكنهم الانسلاخ عن الماضي والابتعاد عن تجاربهم في الماضي ويحاولون بكل الوسائل التشبث بها وتجسيد احداثها بصور يشوبها براعة التعبير العاطفي والبكاء والنحيب لمشاركة المتلقي بهذه المشاعر والذي قد لا يستسيغها البعض ممن عاشوا هذا الواقع الجديد في المهجر وتكيفوا مع الحياة الجديدة فيه، تبقى هذه العلاقة المزدوجة مابين اقلام مثقفينا من الادباء والمسرحيين في المهجر ومابين الماضي من الحنين والانتمائية وعلاقاته الاجتماعية في الوطن هي السائدة والمسيطرة على قلمه في التعبير عما يحسه ويعيش مع ماضيه وتاريخ حياته، مثل هؤلاء لا يمكنهم التعبير عن واقعهم الجديد بمصداقية المشاعر والاحاسيس كالفنان الذي يعيش اختبارات واقع وطنه.
وهنا ااكد ان مايقدمه الاديب والفنان للمغتربين لا يخدمهم وحياتهم الجديدة في واقع جديد يختلف عن ماضي واقعهم، لانهم هم بحاجة الى انتاجات تعالج مشاكلهم الظرفية التي يعيشونها في المهجر، تعالج حالاتهم النفسية والاجتماعية وتعرض مشاكلهم في الغربة داخل مجتمع يختلف بثقافته وسلوكيته وعاداته وتقاليده، ولهذا تتغلب على معظم الانتاجات الادبية والفنية لفنانينا وادبائنا في المهجر طابع الازدواجية في المعالجة والطرح وقد لا يستسيغها المتلقي والذي اجتاز شوطا كبيرا في معايشته للواقع الجديد وتغلب على معظم معوقات الحياة الاجتماعية والثقافية، ولهذا نشاهد ان معظم ادبائنا والفنانين يلجؤون الى الاعمال الكوميدية والتي يحاولون في البعض منها تناول سلوكية المغترب في المهجر والنيل منه والسخرية من تصرفاته في الظروف الصعبة التي يمر بها المغترب، والقسم الاخر يعرض اعمالا تعود بالمغترب الى احضان الوطن بماضيه وانتمائيته ومن خلال شخوص عاشها واحبها ولغة حياتية تجعله يعيش السعادة الوهمية، ومثل هذه النصوص ايضا لا تفيد في معالجة مشاكل المغترب في المهجر، اذن ظاهرة الازدواجية عند الفنانين والادباء تبقى ظاهرة متلازمة ولا يمكن التخلص منها الا بعد مرور اجيال لاحقة لتبدأ مسيرة جديدة وتجربة حياتية جديدة مع واقع المهجر وجيلا منصهر مع واقع الحياة الظرفية في المهجر.