خصوصية اساليب العرض في المسرح التسجيلي والمسرح الواقعي:
حينما بدات ظواهر المسرح الاغريقي اليوناني والروماني في الظهور الى حيز الوجود، وخاضت تجربة عروضها الشعرية والحكايات الاسطورية وعن طريق اسخيلوس ويوربيدس وسوفوكليس ، لم يتغير اساليب طرحها الا بما ندر من حالات انفردت عن سابقاتها من العروض المسرحية ضمن هذه المرحلة من تاريخ المسرح، وكل حالة من هذه الحالات خضعت لمرحلة تاريخية تغيرت فيها الحياة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وعلى ضوء هذا التغيير، اصابت العروض المسرحية اللاحقة وعبر المراحل الزمنية اختلافا في الطرح او في الاعتماد على بعض المستلزمات من الملابس والماكياج والديكور والاضاءة، بحيث بدأ بالاعتماد على الماكياج بدلا من الماسكات اليدوية، مع الغاء مايستدعي الى مستلزمات تطويل الاطراف السفلى والعليا للممثل لضروريات تلك المرحلة من العروض المسرحية ، وبدأت مرحلة الاعتماد على الاضاءة الصناعية الغازية بدلا من الاعتماد على الاضاءة الطبيعية من القمر والنجوم، الا ان تشابه الحكايات والاساطير بقيت متاثرة مابين مراحل تعاقب الفترة الزمنية باسثناء بعضها، وهذا يعود الى تاثيرات المرحلة الظرفية، وكل مرحلة تختلف عن الاخرى بمستجدات الاحداث و الحكايات المعاصرة للمرحلة نفسها، انما لا ننفي ان هناك بعض الملامح المتشابهة والمتقاربة مابين اساليب الطرح والمضمون باستثناء مضامين النصوص المعاصرة للفترة الزمنية ذاتها، ولهذا حينما جائت الفترة التاريخية للمسرح الاليزابتي، بقيت تاثيرات المرحلة السابقة مؤثرة بالمرحلة اللاحقة من تاريخ المسرح الشكسبيري، كالاعتماد على خلق الصراع مابين قوى الشر والخير والمتمثل بشخصيات اسطورية غيبية والتي تصب لعناتها على بعض الشخصيات من ملوك تلك المرحلة من الحقبة الزمنية من تاريخ المسرح الكلاسيكي، ولنا مثال على ذالك في مسرحية ماكبث، ومشهد السحرة، ومسرحية هاملت ومشهد الشبح لوالد هاملت، والذي كان يعمل على تنامي الصراع وبناء الاحداث، وكذالك تناولت هذه المرحلة من تاريخ المسرح اللعنة الميتافيزيقية وقصاصها على الملوك المتجبرين، والايمان بالسحر والشعوذة، فجميع هذه الظواهر الغيبية هي سمة من سمات المرحلة السابقة من تاريخ المسرح وكذالك الجوقة، الا انها اختلفت اختلافا جوهريا من مضمون وشكل في عصر النهضة من تطور الادب المسرحي وظهور مستجدات هذا التطور في المسرح الفرنسي والايطالي والروسي والالماني، وحتى في المسرح الانكليزي عند برنادشو وما قبل مرحلة برنادشو، حيث داب بعض كتاب مرحلة النهضة من امثال جان كوكتو بتناول بعض نصوص سوفوكليس، واعادة صياغة احداثها، مع المحافظة على شكل طرحها (مسرحية انتكونا)، انما الاختلاف في الافكار والثقافة والعقائد.
فمن خلال عرضنا الانف الذكر، استعرضنا المراحل الزمنية لتطور المسرح وتاثيرات المرحلة السابقة على المرحلة اللاحقة وتطورها بالاسلوب والطرح حيث ظهرت مدرسة جديدة دعت الى انتهاج الواقع ومحاكات الطبيعة على المسرح ولاسيما في المسرح الروسي والمدرسة الواقعية وعلى يد منظرها الممثل والمخرج ستانسلافسكي، انما سرعان ما تاثر المسرح الواقعي باجواء التغيير والتطور، فكما كان الحال مع المراحل السابقة من تاريخ المسرح الكلاسيكي، فكذا الحال مع المسرح الواقعي، والذي تاثر بالمستجدات الظرفية من الظروف الاجتماعية والثقافية والسياسية للمرحلة اللاحقة، وظهور مثقفين من كتاب النصوص المسرحية حاولوا تكييف كتابات نصوصهم على ضوء المستجدات الظرفية، واغنتهم عن مشاكل المناظر المسرحية الضخمة، واختصار الفترة الزمنية في كتابات نصوصهم معتمدين على الوثائق والارشيف والصحف اليومية والافلام السينمائية والاسلايدات والصور الحقيقية لمضمون نصوصهم المسرحية، ومن هذا المنطلق انطلق المسرح التسجيلي وعن رائده المتالق بيتر فايس.
انما مايميز المسرح التسجيلي عن المسرح الواقعي وبالرغم من ان هناك جملة من التشابه مابين المضمون والعرض، انما تبقى هناك مقومات اساسية تدخل في تفاصيل اسلوب عرض كل منهما اهمها:
في المسرح الواقعي، تتم عملية التقمص والاندماج، لخلق حالة الوهم، ونقل المتلقي من حالة المشاهدة، الى حالة المعايشة مع الاحداث، وعن طريق هذا الوهم الى واقع عرض احداث العرض المسرحي، اضافة الى هذا يعتمد المسرح الواقعي في عرض نصوصه من احداث الواقع، دون الاهتمام بتدوين التاريخ الا ماندر، فهوى يعتمد على مضمون الطرح كحكاية تجربة او واقعة حدث من الممكن ان تقع على احداث الواقع في المستقبل، ام انها وقعت فيما مضى معتمدا على تفاصيل مضمون مايعرض وتوصيله الى المتلقي، اضافة الى هذا ان المسرح الواقعي يعرض لك ماسي انسانية من قصة محبوكة، معتمدة على تفاصيل احداثها وبنائها مبتدئة من العرض الاستهلالي والعقدة والذروة والحل، وبعيدا عن الخطابية والطرح المباشر، واستخدام العاطفة كوسيلة تساعد الجمهور على المتابعة والتواصل مع الاحداث، بحيث يندمج الاثنان (الممثل والمتلقي) معا ويكونان واحد، وهذه العملية تعتمد على مخاطبة العاطفة والتي لا تخدم الانسان المتلقي، ولا تساعده على مناقشة مايعرض من على خشبة المسرح من الاحداث، اما في المسرح التسجيلي: ليس من الضروريات استخدام المناظر المسرحية (الديكور المسرحي) بالحجم الذي يصبح عبئا ثقيلا على العاملين من تغيير ورفعه ونقله، ولهذا يمكن الاختصار من تصميم للديكور وبشكل فيه من الدلالات الرمزية لمواقع الاحداث، ومع استخدامات الاضاءة البسيطة، وفي بعض الاحيان يعتمد على الفولايت (بروجكتور المتابعه) او على ضربات ضوئية بسيطة (سبوت لايت) وانا في اعتقادي ان هناك تشابه مابين المسرح التسجيلي والرمزي والتعبيري في الشكل فقط مع الاختلاف في مضمون النصوص وكيفية عملية توصيل المضمون الى المتلقي بحيث تعتمد نصوص المسرح التسجيلي على تدوين حقائق الاحداث بالارقام والتواريخ، ومدعومة بالوسائل المرئية من صور واسلايدات وافلام وثائقية وحقيقية، اضافة الى استخدامات بعض الرقع الاعلانية ورسوم كاريكاتيرية على المسرح لتجسيد مضمون مايعرض والذي يعتمد في بعض مشاهده على المحاورة مابين الممثل والمتلقي واشراكه باللعبة المسرحية عن طريق اثارته من محاولة النقاش المنطقي والعقلي، وقلما ما يتم استخدامات شحذ العاطفة في هذا المسرح الا ماندر وعلى قدر وتتطلبه ظروف العرض المسرحي، انما السمة الطاغية على عروض المسرح التسجيلي، المحاورة المنطقية، وتوعية الجماهير توعية سياسية، والمساهمة على التحريض والتغيير وعن طريق التعبئة الفكرية والمستمدة من قصاصات الصحف المحلية والعالمية، وعكس ماساتها عن طريق الاساليب السمعية والمرئية ان اقتضت حاجة تجسيد واقع مايطرح، لدعم المضمون.
ولكل ماشرحناه انفا، نستدل على ان هذه البداية والتي كان رائدها في تلك المرحلة بيتر فايس، حاول مبتدئا دراسة مثل هذه الظاهرة للمسرح التسجيلي، وتوصل الى نتائج استطاع ان يحددها على انها تجربة جديدة لمرحلة ظرفية جديدة في اسلوب الكتابة والطرح في تناول المواضيع السياسية والفكرية والانسانية.
بيتر فايس والواقع الظرفي
لقد استطاع الكاتب المسرحي الالماني بيتر فايس الهروب من ملاحقة النظام النازي وظغوطه، والذي شدد الرقابة على حرية الكتابة والنشر، ولهذا دعته الظروف السياسية الى التنقل مابين المدن والاقطار الاوربية، حتى استقر في السويد، ولهذا اكتسب تجربة مختزنة استطاع توظيبها في كتابات جسد من خلالها التاريخ المظلم، اضافة الى تجسيد المرحلة التي امتلئت من خلالها احداث القمع والظلم والاضطهاد العرقي والسياسي في المانيا مجسدا من خلالها نصوصا متاثرة بتلك الاوضاع الراهنة، معتمدا على تكنيك فيه من التجديد والحداثة عن اساليب العروض التقدليدية.
النصوص الواقعية وسمات
المسرح التسجيلي في مضامينها
نحن لا ننفي ان في مضامين بعض النصوص الواقعية والكلاسيكية، من كتاب المراحل السابقة من تاريخ الادب المسرحي، تتضمن احداثا وشواهد من التاريخ واحداث ماساوية حدثت، ولا سيما في المسرح الاغريقي واليوناني والروماني، وكذالك في المسرح الشكسبيري، والتي عانت من احداث ظلم لمجتمع عاش من معانات وقساوة النعرات الطبقية والمقارنات الاجتماعية، (الاباطرة، والكهنة، وخدم المعابد، والقادة العسكريين، ومن ثم طبقات الشعب) هذا في العهد الاغريقي واليوناني، (الملوك، والحاشية من النبلاء، والاشراف، الصعاليك والطبقة الفقيرة والمعدمة من الشعب) هذا في العهد الشكسبيري، فعلى الرغم من مضامين تلك النصوص لاحداث وشواهد تاريخية، انما اسلوب كتابة مضامين نصوصها لا تتقارب مع اسلوب طرح مضامين النصوص في المسرح التسجيلي، لكون مثل هذه النصوص وبالرغم من نقلها لاحداث تاريخية، انما لا تعتمد الا على حرفية الكاتب ومهارته في صياغة الاحداث الحقيقية، والتي لربما يحاول في كتابته تزييف الحقائق والشواهد لمصلحة ميوله وعقيدته، وهذا لا يمكن حدوثه في المسرح التسجيلي والذي فيه يعتمد الكاتب في اسلوب كتابته على المصداقية ونقل الحوادث التاريخية والمعاصرة بنزاهة وشواهد حقيقية معتمدا من خلال كتابته على التوثيق والارشيف والمدعوم بالافلام الحقيقة لوقائع الاحداث.
وهناك ايضا تشابه في كتابة عرض مسرح داخل مسرح كما هو الحال في مسرحية هاملت لشكسبير، ولكن مثل هذا لا يسمح لانتمائية مسرح شكسبير الى مسرح بيتر فايس، لان في مدرسة بيتر فايس هو صحيح يدون في نصوصه الحكايات التاريخية، انما معتمدا في مثل هذا على الشواهد الحقيقية من الارشيف والصحف المحلية المعاصرة لشواهد الاحداث بالارقام والتواريخ، وعلى الافلام الوثائقية والتي لم تكن متوفرة في تلك الاحقاب الزمنية من تاريخ المسرح الاغريقي والشكسبيري.
ولهذا تبقى كل مرحلة من مراحل الحقبة الزمنية من تطور الاساليب الحديثة في الكتابة والاخراج تجسد هوية مرحلتها الظرفية من خلال الاحداث والوقائع التاريخية والمعاصرة لتجارب مبدعيها، وفي الوقت نفسه هي وليدة تجربة مرحلتها والتي تاخذ اسلوبا فيه من الحداثة والتطوير، وعلى ضوء مستجدات الاحداث والوقائع التاريخية.