يخطىء من يفكر بان المدارس والاساليب المسرحية ماانبثقت واخذت مسارها الفعلي في تاريخ الادب المسرحي الا عن طريق الصدفة، انما حقيقة هذه المدارس والمذاهب المسرحية جائت من خلال ماتوصلت اليه بحوث الفنانين وحقولهم التجريبية.
ونتيجة الظروف المرحلية التي ادت الى ظرورة انبثاق نوعا من انواع التعبير والتجسيد لافكار بعض كتاب الدراما، وتجسيدها باساليب غير تقليدية مراعين في ذالك الظروف الاقتصادية والسياسية والتي كانت تمر بها الشعوب المغلوب على امرها من خلال تسيد بعض المتنفذين اجتماعيا واقتصاديا، وسيطرتهم على زمام قيادة شعوبها، وبموجب ماتمليه عليهم مصالحهم الشخصية، دون مراعات المصلحة العامة.
فقد خاضت الشعوب ماقبل الستينيات تجربة قاسية مليئة بالتناقضات والوعود الكاذبة من خلال شعارات رنانة غايتهم منها، استقطاب مؤيدين لسياساتهم المجحفة بحق شعوبهم، ولهذا تفشى الظلم والماسي مابين افراد المجتمع، وازداد ضغط الحكام من الرقابة المشددة على المفكرين من الادباء والفنانين والطبقة المثقفة من ابناء شعوبهم وملاحقتهم مما اظطرت الى اتخاذ بحق بعضهم الاقامات الجبرية، وزج القسم الاكبر منهم في السجون، واعتقالهم بتهم باطلة مدعين انهم مناهظين لسياستهم، مما اظطر القسم الذي نفذ بجلده الى الهجرة الى اوطان اخرى فيها من حرية التعبير والانفتاح الفكري للحياة الاجتماعية والسياسية.
ونتيجة لكل ماذكرنا من رداءة الاوضاع، دعت الحاجة الملحة لبعض المهتمين في كتابة الدراما الى انتهاج اسلوب فيه من البساطة في الديكور والاعتماد على بعض الدلالات الرمزية من التصاميم التي تجسد مضمون العرض المسرحي، فيها من خصوصية خفة وزنها وسرعة نقلها فيما اذا استوجبت ضروريات العرض لتبديل المناظر المسرحية، وهذا بالطبع ليس بذي اهمية يؤخذ بنظر الاعتبار فيما اذا كان النص المسرحي لا يحتاج الى المناظر المسرحية، او تغييرها اثناء العرض المسرحي، ولهذا اقتضت المرحلة الظرفية لرفد الساحة الفنية ولا سيما في المسرح الى نصوص ذات مضامين جوهرية تناهض الظلم والاستعباد لحياة الانسان، وتنادي بالعدالة والمساوات والتغيير الجذري للانظمة الراسمالية والمحتكرة لجهود العمال والفلاحين، وانقاذ المجتمع من ظلم جورهم وطغيانهم، فهي نصوص تعبوية تحريضية على الاوضاع الاجتماعية والسياسية الرديئة، مشتقة مضامينها التعبوية والفكرية من خلال ماتكتبه الصحف والمجلات الادبية والثقافية والسياسية.
اضافة الى استعانتهم باقسام الارشيف واقتباس منه الاحداث والشواهد التناريخية ، معتمدين على الحقائق المدونة في السجلات الخاصة لهذا القسم، اضافة الى دعم عروضهم بالصور الحقيقية والتاريخية والمعاصرة والتي تجسد اوضاعهم الرديئة، والاسلايدات الصورية، وبعض الافلام التسجيلية والوثائقية، لغرض دعم وتجسيد مضمون مايعرض من الاحداث المسرحية، تساعد على توصيل الفكرة الرئيسية للجمهور المشاهد.
لقد استعمل هذا النوع من العرض المسرحي، على السخرية من بعض الاشخاص المنبوذين وبشكل كاريكاتيري ساخر، منتقدين سلوكيتهم واسلوب تعاملهم مع افراد المجتمع، وتعرية سياساتهم المزيفة وبشكل يثير الاشمئزاز والنقد.
هذه المرحلة من الحالة الظرفية والتي كان يعيشها المجتمع، ادت الى نشوء مثل هذا الاسلوب للعرض المسرحي ، لتميزه بسرعة التوصيل، فاصبحت هذه الظاهرة من العروض المسرحية ذات طابع ينتهجه كبار كتاب الدراما في المسرح ولا سيما في المانيا، مجسدين افكارهم ومضامين عروضهم بالثورة على الرذيلة والطغمة الحاكمة لشعوبهم المغلوبة على امرها ، مستخدمين كافة المستمسكات الوثائقية والمسجلة في سجلات قسم الارشيف ومدعومة بالافلام والصور التاريخية، ومستشهدين بالوقائع الظرفية التي يعيشونها، واعطاء البدائل من الافكار التقدمية لانظمة بديلة تساعد على خدمة الجماهير من اجل الرفاهية والحياة المتفتحة والمعتمدة على حرية التعبير والتغيير لمستقبل الجماهير المتعطشة للحرية والعيش الرغيد، والاهم من ذالك كله، ان الاستعانة في مثل هذا الاسلوب، فيه من السرعة في الكتابة ،واختزال ضخامة المناظر المسرحية.
هذه المقدمة سبقت بها المادة الرئيسية، لاسلط الاضواء على الظروف والاسباب التي ساعدت على انبثاق مدرسة جديدة في مسيرة التاريخ المسرحي، الا وهي مدرسة (المسرح التسجيلي) هذه المدرسة الحديثة والمختلفة عن المدارس الكلاسيكية، والمنفردة بثوابت تجربتها، والتي ما جائت الا نتيجة الاوضاع المتدنية للمجتمعات الاوربية، جسدها المعنيون لدعم هذه المدرسة بنصوص مسرحية، تعتمد بطروحاتها على الافكار التقدمية والمضامين الفكرية والتي تحمل حالة من حالات التعبئة الجماهيرية، وتوعيتهم وحثهم على مناهظة الاوضاع المتردية، وتعرية الانظمة الدكتاتورية والراسمالية والنازية في المانيا، وتسلطها على رقاب المجتمع انذاك.
ولهذا اشتهرت هذه المدرسة والتصقت ( باسم بيتر فايس ) هذا الكاتب والذي اعتمد على مسرحه المختبري، جسد من خلاله ماعاناه من الاوضاع الرديئة في نظام لا يعير اهمية للاوضاع الاجتماعية، هدفه فقط قمع الاقلام والداعية الى حرية التعبير والتغيير، وكتم الاصوات المنادية للمساوات وللعدالة الاجتماعية، ومحاربة الافكار التقدمية والتي تخدم القضايا المصيرية ودعم حركة الجماهير ودعوتها الى الانتفاضات الشعبية ومحاربة الظلم والفساد الاداري، والدعوة الى حرية التعبير في النشر والتوعية الثقافية، كل ذالك مهدت الطريق للكتاب المثقفين، ومنهم بيتر فايس والذي دعا الى حرية المواطن الالماني، ومحاربة النازية واساليب قمعها لحرية الجماهير، وشرح ابعاد هذا الاضطهاد، معتمدا في كتابة نصوصه على الصحف المحلية والمجلات ودعم عروضه على السلايدات والافلام الوثائقية عن طريق عرضها سينمائيا وربط هذا العرض مع تسلسل احداث العرض المسرحي، مما كان لها الاثر في دعم الحقائق المطروحة، وقوة تاثيراتها المباشرة على الجمهور المتلقي.
انما هذه المستجدات من اساليب العرض المسرحي، لا تخلو من مخاطر تاثيراتها على المتلقي، ان لم يعتمد الكاتب على الشواهد والتواريخ الحقيقية، وعلى الافلام الوثائقية كشواهد حقيقية وصادقة في دعم افكار مايطرح من على خشبة المسرح، ولهذا كان على فايس، ومن منطلقات افكاره الانسانية ان يحرص على تقديم من الشواهد والوثائق التاريخية والمعتمدة على الارقام والتواريخ لوقوع الاحداث الحقيقية، ومن خلال مايؤمن به ومجسدا اياه في النصوص المسرحية والتي دعى من خلالها الى عدم اسغلال افراد المجتمع، والى استقلال الشعوب، ولاسيما الشعب الالماني، وتحريضه على النازية وعلى الانظمة البرجوازية والانظمة الحاقدة والمتربعة على كراسي الحكم وبكل شجاعة وجراة فيها من الايمان وترسيخ عقيدته منطلقا من افكاره الانسانية في محاربة الظلم والاضطهاد، ففي مسرحيته ( ماراصاد --- او ---- ماراساد ) استطاع ان يجسد شخصية البطل ومن خلال مواقفه الجريئة والمؤمن بها وهي:
ان على الانسان، مصارعة الظلم والاضطهاد، وان يعري النفوس الضعيفة والانتهازية والتي تعمل لمصلحة المتنفذين ضد ارادة شعوبهم، والملاحظ ان مراحل تطور المسرح الواقعي اخذ بتغيير اساليب شكله وتجرد عن بعض السمات الواقعية والطبيعية، واختصار الكثير من سينوغرافيته لياخذ منهجية متطورة ومختلفة عن اساليب طرحه مما دعى قسما من الكتاب الواقعيين ينتهجون في كتابات نصوصهم اساليب بعيدة عن المدرسة الواقعية وانتهاجهم في نصوصهم الاساليب والمدارس التعبيرية والرمزية والتعليمية.
ومن ثم المدرسة التسجيلية والذي يعتبر من اساليب المسرح السياسي، فلو تابعنا اساليب كل مدرسة من هذه المدارس، لوجودنا ان هناك حالات من التشابه ترتبط مع بعضها في طرح اشكال و مضامين كل منهما، الا ان لكل واحدة منها تنفرد بخصوصية طرحها.