قاسم محمد.. كوكب من كواكب ينابيع العطاء
في المسرح العراقي والعربي
حينما اتناول اي موضوع او مقال يبحث عن اصالة الفن العراقي والفنانين المبدعين من فناني العراق، فانني اضع نصب عينيا عراقيتي وانتمائيتي العريقة لعراق الحضارة والفن الاصيل، والواجب المقدس الملقى على عاتقي وعلى عاتق جميع الفنانين، ان لا ننسى عراقيتنا واصالتنا، ان كنا في داخل الوطن، فنحن بناته، وان كنا في المهجر، فنحن خير سفراء لحضارته وثقافته ولفنه الاصيل، لقد تركنا ذكرياتنا الجميلة من ذكريات طفولتنا وشبابنا، واثبتنا للعالم اجمع بان في العراق ابناء هم من سلالة حضارة وادي الرافدين، وامتداد لثقافته والتي مهدت للبشرية طريقا شعت من خلاله اشراقات ثقافة ابنائه النجباء والتي استمدوها من تاريخهم العريق.
انا امهد لكتابتي هذه بعرض استهلالي، موضحا من خلاله على ما كنا عليه من المكانة الثقافية والفنية ضمن مسيرتنا والتي شهد لها القاصي والداني من بلداننا العربية والعالمية، بحيث بزغت اسماء كواكبنا الفنية من خلال مهرجانات فنية اقيمت في سوريا ومصر وتونس والشارقة، وحصدوا على جوائز تكريمية اعجابا بما قدموه فنانينا المسرحيين من الاساليب الحديثة في التاليف والاخراج منهم: عادل كاظم، وطه سالم، ويوسف العاني واخيرا الاستاذ المخرج قاسم محمد، والذي قدم العديد من اعماله المعدة والمعرقة للمسرح العراقي والعربي معا، اعمالا استمد مضمونها واشكالها من التراث البغدادي، وطرحها باسلوب فيه من التجديد والتغيير، ونموذجا لم يطرحه اي مؤلف او مخرج من مؤلفي ومخرجي العالم العربي والعالمي، فانه قدم المدرسة الواقعية باطار جديد، والمدرسة التعليمية والرمزية، فيها من التجديد والتغيير، جدد من معالم الصورة الكلاسيكية على خشبة المسرح، واصبحت له هوية ومدرسة لا يضاهيه اي فنان، ان كان في الاعداد او في الاخراج، فحين تطالعك صورة في صحيفة ما، او صورة فوتوغرفية لعمل مسرحي ما، مباشرة تؤشر لمساته الفنية وتعلن على انها من بناة رؤيا فيها من الابداع والتالق لا يملكها سوى المخرج قاسم محمد، ان له رؤية متجددة في كيفية تحريك الممثلين وعلى ضوء تصميم الديكور والاضاءة التي كان يساهم في تصميمها لتاتي متطابقة مع الصورة الجمالية والتي رسمها في مخيلته، كان يحدد الازياء لكل شخصية من شخوص اعماله، اضافة الى توجيه الماكيير للمسات فنية يراها تساعد الممثل على تجسيد تعابير وجهه، وتوصيل الاحاسيس والمشاعر الداخلية الى المتلقي.
فلعلي كنت متاخرا عن تناول سيرة هذا الفنان، انما ليس اهمالا بقدر ماهو خوفي وحرصي الشديد من انني قد لا افي بحق مسيرته الفنية وبما تستحق، هذا الصرح العظيم في المسرح العراقي والعربي، والذي تتسم مدرسته الفنية بسمات التجديد والتطوير والتي قدمها في اغلب اعماله المسرحية، كانت تبهر المتلقي باشراقات ابداعية في اساليب فيها من جمالية التعبير والانبهار والاثارة والتشويق، والتي ساعدت من خلالها المتلقي على متابعة احداث عروضه ومن دون ملل.
ان هذا الاسم الذي اكتسب هوية الابداع والتالق، جائت من خلال تاثره بالبيئة التي نشأ فيها. ولا سيما والده والذي كانت لديه خبرة بنقل الاخبار، والحكايات والتي كان يسرد احداثها باسلوب الحكاواتي والقصاخون، (ويكيبيديا-- يذكر في هذا المصدر ان والده كان فقيرا ويملك فرنا للصمون، وفي موقع وزارة الثقافة– دائرة السينما والمسرح- يذكر المصدر ان والده كان حكواتيا فقيرا – وانا ارجح هذا المصدر عن والد الاستاذ قاسم محمد لتاثيراته على الصبي قاسم محمد وتحديد مستقبله المسرحي من خلال هذه التاثيرات)، كان والده يعمل حكواتيا ويتكلم عن شخصيات تاريخية واسلامية ولا سيما في شهر رمضان المبارك والذي كان يحلو فيه السهر، لقد بدأ والده بهذه الهواية ليس احترافا بقدر ماكانت مبادرات منه على احياء امسيات اسروية يتجمع حوله من ابناء المحلة، من شيوخها واعيانها واكابرها ليمضون ليالي رمضان مستانسين بحكاية والد الفنان المرحوم قاسم محمد، وهكذا تاثر هذا الصبي باسلوب والده في كيفية خلق عنصر التشويق والاثارة باسلوب يجسد من خلاله شخصيات لابطال ان كانت واقعية او خيالية، انما المهم هو كيفية تفننه في الالقاء والاندماج مع احداث وقصص حكاياته، مما كانت تثير اشتياق المتلقي وتخلق لديه الرغبة في متابعة مايرويه الاب، ومنهم هذا الصبي الموهوب قاسم.
كانت ظروف تلك المرحلة الاجتماعية لا تسمح بتشجيع التمثيل، لكونه كان يعتبر، من المحرمات على شابات وشباب ذالك المجتمع لظروف تغلب عليها الجهل والامية، وتسودها العادات والتقاليد البالية، الا باشتثناء بعض الملاهي الليلية والتي كانت تجلب روادها عن طريق المطربات والمطربين من المنولوجستية، يعرضون مالديهم من الاستهجان والنقد الساخر باسلوب كوميدي، غايتهم اضحاك رواد هذه الملاهي والمنتديات الليلية، كانت امكانية عروضهم تقليدية تعتمد على المكياج والازياء البسيطة، متاثرين بفن محمود شكوكو ونجيب الريحاني في مصر وشوشو في لبنان.
اما في الاحياء الشعبية البغدادية، فكانت الامكانيات بسيطة تعتمد على ما يقدمه بعض سكان المنطقة من الاكسسوارات والتي كانت تساعد على اضفاء الاجواء المستحضرة لاحداث الحكاية مثل السيوف والسكاكين والرماح الخشبية-- الخ (المصدر من محاضرة الاستاذ حامد الاطرقجي، والاستاذ ناجي الراوي ضمن محاضراتهم الصفية في معهد الفنون الجميلة سنة 1965 - 1966). ان مهنة الوالد هي فران وخباز في فرن كان يملكه – (المصدر، ويكيبيديا)، انما هوايته المفضلة هي الحكاواتي، وان قاسم محمد كان احد افراد جلساته، ومن هنا بدات تاثيرات الوالد تنتقل الى الابن، فاصبحت لديه قابلية التمثيل والتقليد، ومحاكات والده لمعظم قصصه وحكاياته ولا سيما في فن الكلام وقدرته على خلق الاحداث المتشابكة، وكذلك خلق شخوصها والتي كان ينتقيها من الاحياء الشعبية، وتارة كان يبدأ بتقليد بعض الشخصيات والمعروفة في الحي، ازيائها، واسلوب كلامها، وحركاتها، واصواتهم واسلوب تكلمهم، مما كان يثير الاعجاب والبهجة عند المشاهدين بقدرة فاقت قدرت و موهبة والده في فن نقل وتقليد احداث االحكايات التاريخية والاسلامية. عرف قاسم محمد في كيفية صياغة الجمل الشاعرية والرومانسية، وكذلك تعلم حرفية الالقاء وتقطيع الجمل، واخراج الصوت مع المشاعر والاحاسيس وتلوين جمله والتي من خلالها يجسد مشاعره واحاسيسه في التعبير واستحضار اجواء الحدث، لقد عاش عالما يزخر من ثقافة فطرية لعالم المسرح، فاكتسب هذه الحرفة بالفطرة، ومن ثم دفعه حبه الى ان يسجل في معهد الفنون الجميلة وبالرغم من رفض والده، الا انه حقق رغبته والتي عاشت بكيانه وذاته، لقد جاء رفض والده من حرصه على مستقبله ومن قناعة ان الفن لا جدوى منه لبناء مستقبل زاهر يستطيع من خلاله تحقيق حياتا سعيدة مترفة، انما قاسم محمد لم يؤمن الا بتحقيق رغبته في ان يكون ضمن الاسرة الفنية ويساهم في تحقيق طموحاته المستقبلية، في ان يكون له ذا شانا في التمثيل والاخراج المسرحي في العراق، ولهذا توجه الى المعهد، بعد ان توفرت لديه مقومات وعناصر القبول، ونجح في الاختبار وكان ذالك في عام 1955، حيث اصبح طالبا في معهد الفنون الجميلة وتتلمذ على ايدي فناني ومخرجي كبار رواد المسرح العراقي منهم: حقي الشبلي وابراهيم جلال وجاسم العبودي.
لقد برع قاسم محمد في التمثيل مما دعى الفنان جاسم العبودي ان يتنبأ بمستقبله الفني وبقدرته على تطوير مسيرة الفن المسرحي في العراق، فاحتظنه وشجعه ودعمه باشراكه في معظم اعماله المسرحية وراهن على انه سيكون له شانا مستقبليا في تطوير المسرح، ولهذا شجعه على تكملة مشواره الدراسي في اكاديمية الفنون الجميلة، وقد نجح وبرز في معظم المشاركات المسرحية’ في ادوارا صعبة ومركبة، فكان لها خير من جسدها وسخرها على خشبة المسرح، وبموجب ملكته الثقافية وحصيلة دراسته الاكاديمية، والاحتكاك باساتذته ودعمهم له، استطاع ان يقدم ادوارا نالت شهرة واعجابا لدى الصحافة والنقاد من الذين راهنوا على قدراته الفنية.
لقد حاول قاسم محمد بالبحث عن الجديد في المسرح، فكان هدفه ان يسبق اساتذته بالتجديد والتطوير، واستحداث اساليب ومدارس جديدة في الطرح بمضامين فكرية في اشكال فنية لم يسبق وان طرحت قبلا من على خشبة المسرح في العراق، والمعروف عنه انه كان كثير البحث والاطلاع في الكتب والمصادر، ذلك الانسان الناعم البنية، يسعى خلف بصيرته المتفتحة ورؤيته الناضجة، وفق خيال مبدع ومبتكر هدفه ان يجد رافدا من روافد الابداع والتجديد في المدارس المسرحية، ان قاسم محمد ينبوع من ينابيع التجديد للاساليب الحديثة في الطرح والمضامين الفكرية لاشكال لم تطرح من على خشبة المسرح في العراق، ولهذا كان يطرح ماعنده على بعض الاساتذة، فيقابلوه بابتسامة يترجمها على انه مازال يعيش التجربة في مختبرات المسيرة الفنية للمسرح العراقي، فكان يزداد عزيمة واصرار على تطبيق ما يؤمن به، قد ينتابه بعض الالم لهذا العدم المبالات لافكاره ولابتكاراته المتجددة للمسرح الا انه لا يكترث لها بقدر ماكان يزداد اصرارا على صحة ارائه مما دعاه الى التقصي والبحث في الكتب التراثية والعربية، والبحث في مجلدات الف ليلة وليلة.
اضافة الى صور والده والتي لم تكن تفارقه وهو يؤدي الحكواتي بشكل يثير انتباه المتلقين ويشدهم الى حكاياته، فجميع هذه الصور هي كانت له بمثابة اختبارات له ليجمعها وينسقها في سيناريوهات خيالية اعدها لعروض مسرحه المستقبلي، والذي انفرد به، ليصبح رائدا في التجديد للتراث البغدادي من حيث الشكل في مضمون مشتق من احداث الواقع الاجتماعي التاريخي والمعاصر فاعتمد الرمز والتعبير والواقعية مدرسة لاعماله المسرحية، ومعتمدا على تقنيات الاضاءة الحديثة، والتصاميم الهندسية للديكور وبما يخدم طرحه، مضيفا لمسات قل نظيرها في اعمال اساتذته الرواد، مما ابهرتهم لكونه طرح المسرح الشامل لمدرسة ستانيسلافسكي وبرشت متاثرا بمدارسهم، ومجتازا لهم بعبقرية ذلك الفنان الذي يبحث عن تجارب جديدة لاشكال ومضامين فنية فيها من التالق والابداع في عروضه المسرحية.
ففي الستينيات عزم قاسم محمد على اكمال ثقافته الاكاديمية والاستزادة من تجارب العروض المسرحية العالمية، فسافر الى موسكو لاكمال دراسته المسرحية، حيث انضم الى معهد الدولة في موسكو وتخرج منه عام 1968 ليعود الى العراق واحلامه في ان يطرح ماكان يخطط له باسلوب فني وجميل مما جعلت تمارينه مع الممثلين ان تحقق ثمارا كانت الاساس في ذلك، اسلوب تحريكهم وترجمة قيادة هذه المجاميع باشكال اضفت جمالية التعبير من خلال رؤى بصرية، هذا الاسلوب نجح من خلاله على تجسيد الرمز والتعبير من خلال هذه المجاميع والذي اجهد نفسه في التركيز على التمارين المكثفة والتي يؤمن بها على انها تضفي للممثل جسدا مرنا ليساعده على تحريكه وفق متطلبات الحركة المرسومة له من قبل المخرج، وهكذا كان له النجاح في تطبيق رؤاه على المسرح.
لقد قدم قاسم محمد اعمالا عديدة رسخت مفاهيم جديدة واساليب حديثة في العروض المسرحية العراقية والعربية، وتركت اثارا لم ينساها الجمهور العراقي والعربي منها:
النخلة والجيران، ومسرحية انا ضمير المتكلم، ومسرحية بغداد الازل بين الجد والهزل، والخرابة، ومسرحية شيرين وفيرهاد، ومسرحية كان ياما كان، وتموز يقرع الناقوس، ومسرحية طير السعد، ومسرحية الشريعة، ومسرحية الباب، ومسرحية الصبي الخشبي والتي عرضت من على قاعة المسرح القومي في كرادة مريم في بغداد.
(وللظروف المرحلية والتي مر بها العراق، وبعد هذه المرحلة الطويلة من عروضه المسرحية، استقر به الحال في الشارقة وذلك عام 1997 حيث اكمل مسيرته المسرحية والتي من خلالها حصد الجوائز العديدة نتيجة لاخراجه العديد من المسرحيات منها:
عودة هولاكو، والقضية، ومسرحية حظوظ حنظلة الحنظلي، والتي فاز بها على جائزة افضل مخرج، ومسرحية حمدوس والتي نالت على افضل عرض مسرحي في المهرجان، واخيرا فقد ختم اعماله المسرحية في الشارقة في مسرحية حكايات من ازقة العالم الثالث.
ان الكتابة عن المخرج العراقي قاسم محمد قد يعجز القلم عن وصفه كمخرجا ومعدا وممثلا عراقيا وعربيا، لجهوده المثمرة والمتميزة في المسرح العراقي والعربي. فقد نال عدة جوائز منها كافضل مخرج في مهرجان قرطاج في تونس عام 1987 عن مسرحية الباب، وكذلك جائزة التكريم من الملتقى العلمي الاول للمسرح العربي في القاهرة عام 1994، كما نال جائزتين في مهرجان ايام الشارقة المسرحية كافضل فنان عربي.
واخيرا تبقى مدرسة الفنان قاسم محمد نبراسا لمسرح متجدد ومعطاء، بعد ان غادرخشبة المسرح والحياة الى مثواه الاخير في السادس من نيسان عام 2009 اثر مرض عضال، ونقل جثمانه الى بغداد حيث دفن فيها). (بعض من هذه المعلومات عن حياته وسيرته المسرحية في الشارقة اخذت من مصدر بقلم احمد الماجد المنشور على صحيفة راي اليوم- هذا للتنويه عنه- تحياتي).