التاريخ مابين المصداقيـة والاجتهـاد الشخصي
في المسلسل التلفزيوني العراقي
اخر الملـوك.. فيصـل الثانـي
لو تطرقنا الى تعريف التاريخ، وبحثنا عن وظيفته واهميته في حياتنا المعاصرة لاكتشفنا ان لكل مؤرخ اسلوب وغاية في نقل الحقائق التاريخية وتفنيد الاحداث وتفسيرها بموجب رؤيته الاجتهادية، وموازنة الامور مابين العواطف والعقل في نقل واقع الماضي الى الحاضر .
فمن المؤرخين ماينظر الى التاريخ من الناحية السياسية والثقافية ومنهم مايتناول الجوانب الاقتصادية، ومنهم من يتناول ادارة البلاد وكيفية تسيير امورها من حيث السلطة ورموزها، اي رموز الاحقاب الزمنية من تاريخ اي مجتمع او دولة، ليعيد صياغة تاريخ تلك الحقبة الزمنية وفق اجتهاد ذاتي لمعايير واقع تلك الحقبة، مراعيا في ذالك تعاطفه وميوله وانحيازه لتلك الحقبة وتجسيدها وفق منظوره الذي من خلاله يزيح عنه كابوس تحرير كتاباته بشيىء فيه من الانحياز والانحراف، لتتفق مع اراء بعض الشرائح الاجتماعية المتسلطة في المجتمع المعاصر ووفق ماتستحسنه مصالحهم وتخدم اهدافهم، وفي الوقت ذاته هي خدمة لمصالحه الشخصية، انما هو في هذا الانتهاج ينتقص من تاريخ امة برمتها بشيىء من التجني على تاريخها وعلى رموز ذالك التاريخ، ربما كان عليه الغوص في اعماق التوثيق والارشيف والمستمسكات التي تساعده على نقل الحقائق وتعبر بصورة غير مزيفة عن واقع تلك الحقبة التاريخية فيها شيىء من الحقائق والمعتمدة على التوثيق الصحيح، وكما كان الحال مع البرنامج التلفزيوني والممتع والذي كان يعده ويقدمه الدكتور محمد مظفر الادهمي له كل الحب والتقدير، ومازال مستمرا بتقديمه في الوقت الحاضر، هذا البرنامج يعتمد على سرد الحقائق التاريخية عن العراق وعن مسيرته في ظل احقابه الماضية، وكذالك يتناول من خلاله الاحداث العالمية من الثورات والحروب العالمية معتمدا في ذالك على الافلام الوثائقية والمتوفرة في قسم الارشيف، اضافة الى عرضه الشهادات والمستمسكات التاريخية والصادرة ضمن تلك الاحقاب الزمنية والتي يستعرضها في برنامجه، مما ساعده على اضفاء المصداقية في نقل الوقائع التاريخية بحقيقيتها ومن دون تحريف او انحياز الى اي جانب كان سلبيا او ايجابيا من جوانب تلك الحقبة الزمنية من تاريخ العراق، ليصوغ بهذا النقل لوحات تاريخية فيها من الصدق للحقائق في استعراضه اياها، ليعيشها الحاضر ويمكنه المقارنة مابين تلك الاحقاب الزمنية من التاريخ، ومابين الحاضر، ومايستعرضه للمستقبل لابنائنا واحفادنا.
مصادر التاريخ
ان اي باحث ان اراد الغوص في شواهد التاريخ والبحث عنه، سيجد ان هناك مصادر عديدة يمكنه الاعتماد عليها ومنها:
اولا -- عن طريق المكتبات والارشيف المتكدس على رفوفها وفي مجلداتها التاريخية.
ثانيا -- الاطلاع عن شواهد الاثار والمتاحف الموجودة في كل بلد يهمه الاحتفاظ بهذه الشواهد التاريخية والحضارية .
ثالثا -- عن طريق الافلام الوثائقية والانسرتات المصورة في نقل بعض الشواهدالتاريخية والمواثيق والمعاهدات والبروتوكولات المبرمة مابين الدول وحلفائها.
رابعا -- الكتب والمطبوعات التي تتكلم عن الاحقاب الزمنية من تاريخ كل امة او اقليم وعن ماضي احداثه التاريخية.
خامسا -- شهود العيان، ممن عاصروا تلك الحقبة الزمنية، او لربما قد ساهموا في صنع احداثها، وعن طريق شهاداتهم ورواياتهم، يمكن اعتمادها وثيقة تاريخية يستفاد منها لتوثيق الحقائق والاحداث التي عاصرها هؤلاء الرواد.
ولهذا يجب علينا ان نبحث في جذور كل شخصية تاريخية او معاصرة، وتجسيد هذه الشخصية بمعالمها الطبيعية والنفسية والاجتماعية، ليتسنى لنا نقل الحقائق برمتها وبشكلها الصحيح ومن دون تشويه او اضافة رتوش اجتهادية غايتها تحسين الصورة، او تجسيد القباحة والرداءة في معالمها (الطبيعية والنفسية والاجتماعية).
سلام -- ف -- كلام
في المسلسل التلفزيوني -- اخر الملوك
تاليف -- فلاح شاكر
اخراج -- حسن حسني
لا اعلم كيف ساقتني الظروف لمشاهدة هذا المسلسل وانا في سدني، والذي رجوت منه ان يعيد لي ذكريات طفولتي من خلال تجسيده لحياة العراق والعراقيين وانا منهم في الخمسينيات من الحقبة الزمنية من تاريخ العراق السياسي والاقتصادي والثقافي، وان يعيد الى ذاكرتي تلك التظاهرات الجماهيرية بقيادة المنظمات السياسية من الوطنيين والادباء المثقفين ، والعمال الكادحين، والتي في معظم الاحيان ماتجبر الحكومة على اسقاط وزارة وتشكيل وزارة اخرى ترضي طموحاتهم وتحقق مطاليبهم ضمن اجواء مليئة بالخطابات التعبوية والدعم المعنوي للسياسيين العراقيين والتي كانت تنطلق من اذاعة صوت العرب، وسخونة خطابات الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وانشطة الساسة والسياسيين الوطنيين من الاحزاب التقدمية والرافضة للمعاهدات والبروتوكولات الدولية والتي من خلالها ترسم سياسة العراق الخارجية ومن خلال الاحلاف (حلف بغداد)، والذي كان مرفوضا من قبل الاحزاب الوطنية التقدمية.
وها نحن في مقالنا هذا نستهله بالسلام وبالتحية لكل جهد فني يلتقي فيه الابداع مع الابتكار في كيفية استخدام التقنيات الفنية لنقل الحقائق التاريخية وبمثل ماكانت عليها حرصا على امانة نقلها، واضافة المصداقية لها واحتراما للمتلقي الذي يكرس وقته من اجل متابعة مايعرض عليه من الوقائع والحقائق التاريخية، التي كانت مخفية عنه، وعن طريق البرامج المعنية، او المسلسلات التاريخية والمعاصرة منها.
اخر الملوك، هذا المسلسل العراقي والذي انتجته الشرقية مشكورة، جاء نتيجة جهد عراقي وابداعات فنية تميزت من جمالية الديكور الافتراضي، وابداعات الممثلين العراقيين منهم المحترفين والهواة والذين مازالوا يشقون مسيرتهم الابداعية ليضيفوا عليها علامات متميزة جيدة ضمن هذه المسيرة والتي تكتسب خبرتها من الرواد الذين شاركوهم التمثيل في هذا المسلسل العراقي، اضافة الى تماسك بعض المشاهد وافتقار القسم منها الى الحبكة من اجل المساعدة على خلق عنصري الشد والتشويق للمتلقي وجعله يتابع احداث المسلسل ومن دون ملل، كما لا يخفى على امتلاك المؤلف فلاح شاكر خبرة وملكة في التاليف ولا سيما في كيفية صياغة المشاهد وتتابع تسلسل احداثها، الا انه اخفق في نقل حقائق بعض الاجواء الحياتية لظروف تلك الفترة التي عاشها الشعب العراقي، ودور التنظيمات الوطنية التقدمية التي لعبت دورا اساسيا في حياة الشعب ورموز نظامه الملكي، حيث ان المسلسل لم يتناول دور الوطنيين والمثقفين بشكل يجسد من خلاله دورهم في تصاعد الاحتدام مابينهم وبين رموز النظام الملكي والمتمثل بالوزراء وحاشيتهم من التابعين لهم في حياكة المؤامرت والدسائس فيما بينهم الا من خلال شخصية واحدة هي شخصية غائب طعمه فرمان وفي الحانه بين المدمنين على الخمر وتحت انظار بعض من جواسيس رموز الداخلية للنظام، وكذالك لم يتناول المسلسل دور الفنانين ولا دور الصحف المحلية، ولا دور الشعراءالوطنيين، وحبذا لو استعان بالانسرتات للتظاهرات الجماهيرية للشعب العراقي والموجودة في قسم الارشيف ليضفي على المسلسل شيئا من مصداقية التاريخ لحياة شعب شارك في صنع الاجواء الملائمة للقيام بثورة نموز وكذالك اخفق في تجسيد دور الجماهير المنتفضة ضد بعض القرارات الجائرة والمجحفة بحق الشعب، ولم نعلم شيئا عن دور العائلة المالكة ووزارائها ولا سيما دور الوصي عبد الاله في معالجة الامور المستعصية عليه، وعن الظروف الغامضة والتي كان يحيكها بعض الوزراء فيما بينهم للاستيلاء على بعض مراكز الوزارات، ولم يجسد المسلسل الصراع الذي كان يدور فيما بينهم الا في مشاهد بسيطة وغير مقنعة لا تجسد خطورة تحركاتهم، اؤلائك الوزراء الذين لعبوا دورا بارزا في رسم سياسة العراق الداخلية والخارجية، حيث مزج المؤلف في تجسيدها مابين الاجتهادات الذاتية وتزييف حقائق البعض منها، ولاسيما في رسم شخصية الامير عبد الاله، والذي كان يتجه الى الخمر والادمان في حالات ضعف من معالجة بعض الامور التي كانت تكتنف وصايته و مسؤوليته في ادارة شؤون المملكة، ولحظات ضعف بالغ في تجسيدها قرب انتهاء وصايته، بعكس الحقائق والوثائق وشهود العيان والذين زاملوا حياة الامير عبد الاله في حياته العائلية والمهنية، وتكذيبهم ماشاهدوه من متابعة المسلسل وتعليقاتهم على الحقائق التي كانت مشوهة في عرض شخصية الوصي (المصدر عن حقيقة شخصية الوصي عبد الاله، تظهر في مقابلة مع احدى المقربات من العائلة المالكة وهي السيدة تمارا الداغستاني، في لقاء مع الدكتور مجيد السامرائي في برنامج اطراف الحديث) (وكذالك اللقاء مع الفنان التشكيلي الفنان عطا صبري)، اضافة الى ان المسلسل كان تقريريا خاليا من عناصر الصراع الا ماندر، وكان بالامكان معالجة هذه الرتابة من قبل المخرج والاتفاق مع المؤلف في صياغة بعض المشاهد فيها شيئا من الصراع الذي لربما كان ينقذ هذا المسلسل من بعض المشاهد الرتيبة بمعالجة ذكية يخلق من خلالها عنصر التشويق ليساعد المسلسل وينقذه من هذه الرتابة في بعض المشاهد.
لقد ابدع جميع الفنانين من العراقيين والعرب، في استحضار اجواء العائلة الملكية وبجهدهم الشخصي وبمحاولات منهم لانقاذ بعض المشاهد من الرتابة والحالة التقريرية مجسدين ادوارهم بمنتهى التالق والنجاح في اجواء الديكور الذي دفع بالممثلين ان يعيشوا الاجواء باحاسيس صادقة، متغلبين على الحوارات التقريرية والخالية من الحبكة، الا ماندر حينما تاتي بعض المشاهد لتنقذ المسلسل من رتابة العرض، ولاسيما في مشاهد الفنان سامي قفطان وزوجتيه بتجسيد رائع وواقعي في نقل الحياة الواقعية لمثل هذه الشريحة الاجتماعية التي عاشت اجواءا معاصرة للعائلة المالكة انما بعيدة عن مسار الخط العام لاحداث البناء الدرامي للموضوع الرئيسي الا وهو تناول حياة العائلة المالكة وتطور احداثها، وكذالك محاولة الفنان الواعد خليل فاضل خليل في تجسيد شخصية الملك فيصل الثاني، انما محاولاته كانت تنتابها بعض الخوف والحرص على ان يكون تجسيده هذا، جاء وبما يتفق مع شخصية الملك فيصل الثاني، استعراض المجاميع (الكومبارس) في معظم المشاهد فيها من دقة التنفيذ، وكذالك تحريك الكاميرات جائت في لقطات فيها شيئا من الابداع، وكذالك اختيار الزوايا لموقع الكاميرات اضفت شيئا من جمالية اللقطات، اضافة الى كل هذا لقد نجح المخرج حسن حسني في تحريك الممثلين في داخل الكادر وخلق علاقة احاسيس ومشاعر في كيفية تجسيد بعض المشاهد بشكل يوحي فيها شيئا من صدق التعبير والتي استطاع الممثل العراقي ان يثبت جدارته في تجسيد ابداعاته كممثل له من الخبرة والتجربة الرائدة تضاهي خبرة وتجربة بعض الفنانين والذين لهم المساحة الكبيرة من فرص العمل الدرامي في المسلسلات التلفزيونية.
-- لقد ابدع الفنانين العراقيين المتميزين في هذا المسلسل كل من الفنانه هديل كامل والفنان خليل فاضل خليل انما كان يحتاج الى دراسة مستفيضة لشخصية الملك في كيفية تكلمه، واتقان لهجته البغدادية العريقة، والابتعاد عن الالفاظ التي فيها شيئا من هجينية اللهجة والمقحمة على اللهجة البغدادية الاصلية وكذالك ابدع الفنان حكيم جاسم في تجسيد شخصية الوصي انما ايضا وقع في مثل اخطاء الفنان خليل في لهجة الوصي الحجازية اللكنة، وكذالك الفنان طه علوان والفنان عادل عثمان والذي له باع طويل من الخبرة والتجربة في التمثيل، ولا سيما في المسلسلات التلفزيونية، وكذالك الفنان سامي قفطان والفنانة المبدعة والمتالقة دوما ودائما انعام الربيعي، والتي جسدت شخصيتها بجرئة تلك الفنانة المؤمنة برسالة فنها، وقد نجحت باداء دور تلك الزوجة التي تحاول بالاحتفاظ بزوجها وبشتى الوسائل المغرية وقد نجحت من خلال رسم معالم شخصيتها باداء متقن شابها من تعبير فيه شيئا من الاغراءات التي اوقعت زوجها (سامي قفطان) بين تغنجاتها ونجحت في الاحتفاظ به لليلة كاملة والتي كانت من مستحقات ضرتها الزوجة الثانية، وكذالك اللوحة المتالقة من تجسيد الثنائي الفنانة العريقة احلام عرب والفنان المتالق حسن هادي، وتحية حب للفنان المتالق والمبهر في ادواره التلفزيونية والسينمائية الفنان المصري احمد فتوح، وكذالك الفنان السوري نجم الدراما السورية المتالق محمد الجراح .
واخيرا غايتنا من هذا التقييم، هو المساهمة في نهضة جادة في تطوير الدراما العراقية، تعكس من خلالها، وجه العراق الحضاري والفني وعن طريق نجوم الابداع والتالق من فنانينا العراقيين المبدعين لهم كل الحب والتقدير، وكذالك تحية حب وتقدير للمؤلف فلاح شاكر، واعجاب للفنان المخرج التلفزيوني حسن حسني له كل الحب والتقدير.