ليس هدفي في هذا المقال البرهنة على مدى استعداد أو عدم استعداد العبادي فعلياً لإلغاء المحاصصة الطائفية وإقامة حكومة تكنوقراط بالبلاد. فهذه المسألة يفترض أن تؤخذ في إطار الواقع العراقي القائم حالياً وميزان القوى السياسية والاجتماعية بين تلك التي تريد تغيير النظام السياسي الطائفي- الأثني القائم وإقامة النظام المدني الديمقراطي وتلك التي تريد تكريس الطائفية الأثنية بالبلاد وصراعاتها المريرة والدماء والخراب اللذان لا ينقطعان، بل إن ما يعنيني هنا هو موقف الكتل البرلمانية الكردستانية من النظام المحاصصي الطائفي المقيت الذي عمق الصراعات والنزاعات الدموية، والتي أدت إلى سيول من الدماء والخراب بالعراق كله وإلى ما عليه الشعب بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه وبدعم كامل من الإدارة الأمريكية التي سعت إلى ذلك. حين طرح العبادي فكرة إقامة حكومة تكنوقراط بدلاً من حكومة المحاصصة الطائفية المرفوضة من الشعب العراقي وقواه الديمقراطية والتقدمية، نشأ تصور واقعي بأن غالبية الأحزاب الإسلامية السياسية سترفض هذا الطرح، لأنها تريد إبقاء النظام الطائفي والأثني القائم لأنه يحقق مصالحها الحزبية والشخصية الضيقة، في حين يفقد الشعب عبر هذا النظام إرادته ومصالحه وبناته وأبنائه وثروته الوطنية. وهذا ما حصل فعلاً بالنسبة لأغلب الأحزاب الإسلامية السياسية، وبعضها الآخر متردد أو وافق على مضض. بل حتى أياد علاوي، الذي يدعي جهارا نهارا بالديمقراطية والعلمانية، رفض الموافقة على فكرة العبادي، بغض النظر عن مدى جديتها أو عدمها, وقد علمنا هذا الرجل على مثل هذه المواقف البائسة طوال عمليه السياسي! القوى الديمقراطية والتقدمية، التي تعرف مدى صعوبة هذه الخطوة، في ظل ميزان القوى الراهن، أيدت ذلك ودعت إليه، كما أيد السيد رئيس الجمهورية العراقية مشروع العبادي في حكومة تكنوقراط. فماذا كان موقف القوى والأحزاب بالإقليم؟
انطلقت قبل ذاك تصريحا ضد الإصلاح والتغيير، ثم جاءت تصريحات من سياسيين قياديين بالإقليم تشكك بوجهة العبادي أو ترفض دعوته لمثل هذه الحكومة. ولكنها لم تكن تصريحات نهائية. ويوم أمس فقط ظهرت تصريحات حول الموقف من هذا المشروع. فقد جاء في النشرة الخبرية للمجلس المركزي للاتحاد الوطني الكردستاني تصريحات للنائية آلا طالباني عضوة التحالف الكردستاني في البرلمان العراقي ما يلي: "أكدت النائبة عن التحالف الكردستاني الا طالباني، اليوم السبت، أن كتلتها وبعض الكتل السياسية صارحت رئيس مجلس الوزراء حيدر العبادي بعدم إمكانية منحه تفويضا لإجراء تغيير وزاري، وفيما أكدت "أننا لم نلمس" آليات العبادي لمواجهة الأزمة المالية، عدت مناقشته للوضع الاقتصادي في البرلمان "متأخرة".
وقالت طالباني في حديث إلى (المدى برس)، إن "طرح رئيس مجلس الوزراء حيدر العبادي خيارين بشأن التغيير الحكومي أحدهما العودة إلى حكومة المحاصصة أو منحه تفويضا من البرلمان لإجراء تغيير وزاري جاء مفاجئا"، مؤكدة "أننا في بعض الكتل كنا صريحين معه". انتهى المقتطف (النشرة الخبرية للمجلس المركزي للاتحاد الوطني الكردستاني في 21/2/2016).
وهذا التصريح يتضمن مسائل كثيرة صحيحة كالتأخير في معالجة الوضع الاقتصادي أو عدم وضوح رؤية بالموضوع، ولكن فأن هذا الموقف بشكل عام يؤكد ثلاث مسائل سلبية في سياسة العديد من الأحزاب والقوى الكردستانية وفي الحكم أيضاً والتي أتابع بروزها بحدة منذ فترة غير قصيرة: الاعتقاد بضرورة وجود تحالف كردي - شيعي، باعتباره تحالف المظلومين سابقاً.
وقد صرح به أكثر من سياسي كردي، ولكن بشكل خاص، القيادي البارز في الاتحاد الوطني الكردستاني ورئيس المجلس المركزي للاتحاد السيد عادل مراد.
وهذا يعني بكلمة صريحة مواصلة العمل لتعميق وتوسيع الصراعات والنزاعات بين السنة والشيعة واستمرار شق وحدة الصف العربي بالعراق، واعتبار السنة ضد الكرد وضد الشيعة، وهو امر خطير وغير مقبول فكرياً وسياسياً، ولا ينسجم مع تاريخ ونهج الصديق عادل مراد.
الاعتقاد بأن استمرار النظام المحاصصي الطائفي والأثني والصراع بين السنة والشيعة يوفران الفرصة المناسبة ومستلزمات انتزاع مكاسب معينة لصالح الكرد، أو بتعبير أدق، لصالح الأحزاب والقيادات الكردية الحاكمة.
الاعتقاد بأن النظام المحاصصي السائد بالعراق يوفر إمكانية أكبر للكرد على تعميق الصراعات في الدولة العراقية وعدم الاستقرار مما يوفر الفرصة لإعلان استقلال كردستان العراق. ومن هذا المنطلق تخشى قوى سياسية كردية أي معالجة جادة وعلى أسس سلمية ومدنية لتغيير النظام السياسي الطائفي الأثني القائم لصالح دولة مدنية ديمقراطية، وهي مسألة خطيرة وفي غير مصلحة الشعب الكردي على المدى القريب والمتوسط والبعيد، إنه إضرار بمصالح الشعب الكردي وبقية القوميات العراقية ولا يجوز استمراره. وكان الأجدر بالأحزاب الكردستانية، التي تتحدث عن الديمقراطية والعلمانية وفصل الدين عن الدولة ولها علاقات نضالية مديدة مع القوى الديمقراطية والتقدمية العراقية ومع عموم الشعب العراقي، أن تشارك في النضال من أجل تغيير النظام الطائفي الأثني القائم لا تكريسه، والموافقة على مبدأ التغيير في الوضع الذي يطالب به الحراك الشعبي والقوى الديمقراطية العراقية. إن قراءتي لتصريح النائبة آلا طالباني أنه لا يصب في مصلحة الشعب الكردي ولا عموم الشعب العراقي، بل يسهم في تكريس الصراعات والنزاعات وفي توفير الأرضي الصالحة لدولة طائفية تدمر هوية المواطنة الحرة والمشتركة والمتساوية وهوية الوطن العراقي الذي يتمتع الشعب الكردي بالفيدرالية وبحقه في تقرير مصيره بنفسه متى وجد ذلك مناسباً وممكناً، وهو حق ثابت لا يمكن أن ينتزعه الإسلاميون الطائفيون ولا القوميون الشوفينيون، ولكن يمكن أن يضيعه ضيقوا الأفق القومي.