على امتداد نشوء الحركات الإسلامية السياسية في منطقة الشرق الأوسط، وعلى امتداد الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية حتى الآن، تميزت بكونها تعتمد على أحد المذاهب في الإسلام، سواء أكانت شيعية، أم سنية، بواحد من مذاهبها الأربعة، على حسب البلد بأكثريته المسلمة السنية.
وهذه الأحزاب التي قامت على أساس مذهبي، تميزت في الوقت ذاته بالطائفية السياسية، أي مارست التمييز إزاء أتباع المذاهب الأخرى، سواء أكانت في الحكم أم خارجه، لم تعترف يومياً بهوية المواطنة المتساوية والمشتركة، حتى حين تُجبر على تثبيت ذلك في دساتيرها الأساسية. فالممارسة تختلف تماماً عما هو مسطر لديها على الورق.
يمكن أن يتابع الباحث الفارق في ما بين هذه الأحزاب أو حكوماتها في مدى شدة ممارستها التمييز إزاء أتباع المذاهب الأخرى في الإسلام، إضافة إلى مدى ممارستها للتمييز الفعلي ازاء أتباع الديانات الأخرى. وليس هناك من بلد لم يعانِ من هذا الواقع المّر، إذ يشمل الدول ذات الأكثرية المسلمة والمتعددة المذاهب أو الديانات من غير الدول العربية أيضاً. والتمييز نجده في سياسات وممارسات الدول بسلطاتها الثلاث ومؤسساتها المختلفة، ونجده أيضاً بين الأحزاب القائمة وكذلك لدى الأفراد.
ويمكن هنا ذكر السعودية وإيران وتركيا وسوريا والعراق ومصر ولبنان والسودان والأردن...الخ.
والعراق يعتبر واحداً من أكثر الدول ممارسة للتمييز إزاء اتباع الديانات الأخرى من غير المسلمين، وكذلك إزاء أتباع المذاهب الأخرى.
وهي ممارسة تقوم بها سلطات الدولة الثلاث، وأحزابها وقواها السياسية الحاكمة، ومنظماتها، وتنظيماتها الميليشياوية الطائفية المسلحة، وكذلك انتشار ذلك في أوساط المجتمع.
والطائفية القائمة بالعراق ذات منهج وممارسة تتسمان بعقلية التمييز وروح الانتقام في التعامل اليومي والسادية الجامحة والرغبة الشديدة في إقصاء الآخر.
ومناهج الأحزاب الإسلامية السياسية تقوم على هذا الأساس في الواقع اليومي، وهي بالتالي تتنكر فعلياً لهوية المواطنة الحرة والمتساوية والشراكة بالوطن، حتى وأن لم تقلها، فهي تمارسها يومياً.
وفي هذا انتهاك صارخ للائحة وشرعة حقوق الإنسان. ومثل هذه الممارسة لا تقود العراق إلى التمزق والتبعثر والصراع حسب، بل وإلى النزاعات الدموية التي ينبغي التصدي لها وإفشالها.
وغالباً ما يتعكز الطائفيون بالعراق بالسلوك الطائفي للنظام السابق، وكأن أبناء السنة مسؤولون عن الحاكم السني الطائفي أولاً، وكأن الخطأ لا بد أن يقابل بالخطأ ايضاً، ليدمر البلاد وشعبها.
فالطاغية صدام حسين لم يمثل السنة ابداً، والخطأ لا يقابل بالخطأ، بل بإزالة آثار ذلك الخطأ، من خلال الممارسة الإنسانية الصادقة في ما بين أتباع الديانات والمذاهب والقوميات، والابتعاد التام عن ممارسة التمييز وكل السياسات التي تقود إلى الموت والخراب والدمار والتدهور الحضاري.
لقد أكد رئيس الوزراء العراقي بأنه "مستعد على الموت في تصديه للطائفية"، أي إنه غير طائفي. ولكن، ها هو يقترب من عامه الثاني في السلطة والطائفية والفساد في تفاقم مستمرين، وعلى يد ذات الحزب الذي ينتمي إليه ويحتل فيه موقعاً قيادياً، ونفس التحالف الطائفي الذي ينتسب إليه والذي كرس الطائفية بالبلاد. فأين هي مصداقية قول رئيس الوزراء إنه مستعد للموت في مواجهة الطائفية؟
ليست هناك مصداقية الادعاء بأنه مستعد على الموت في مواجهة الطائفية!! الأعمال هي الأساس ولي الأقوال! إن التقارير الكثيرة التي لم تصدر عن منظمات وأحزاب بعثية أو إسلامية سنية، بل عن جهات مستقلة حقاً، وعن منظمات مجتمع مدني مستقلة، وعن أحزاب وطنية لا تعترف بكل أشكال التمييز، تؤكد كلها على الدور المشين للميلشيات الطائفية الشيعية المسلحة وقادتها في المحافظات ذات الأكثرية السنية، وفي مجموع العراق.
وكنموذج على ذلك نورد محافظة ديالى بشكل خاص، ولكن لا يتسثنى من هذا السلوك الشائن والسادي واللصوصي الذي يعاني منه سكان المحافظات الأخرى ذات الأكثرية السنية أو أبناء السنة في المحافظات ذات الأكثرية الشيعية.
وعلينا أن نتذكر ما عاناه المسيحيون والمندائيون من ملاحقات وتهديدات وتشريد وقتل وتهجير وسيطرة على دور السكن والمحلات التجارية خلال الفترة الواقعة بين 2004-2008، وما بعدها أيضاً، على أيدي المليشيات الطائفية الشيعية المسلحة.
ومشاركة المليشيات الطائفية السنية المسلحة في المواجهة وممارسة الطرفين للقتل على الهوية الدينية والمذهبية.
إن النظام السياسي القائم بالعراق نظام سياسي طائفي مسخ، يستند في استمرار وجوده ونشاطه إلى المحاصصة الطائفية. وهي المصيبة الكبرى التي وضعت العراق في هذا الموقع المشين. وإزالة الطائفية تتطلب وحدة الشعب ووعيه بما هو عليه الآن ودور أبنائه وبناته المخلصين الذين يدركون عمق المستنقع الذي وضعوا الطائفيون العراق فيه، والذي يمكن أن يغوص ف هذا المستنقع أكثر فأكثر.
إن وحدة الشعب العراقي بكرده وعربة وكلدانه-آشورييه - سريانه وتركمانه، وأتباع كل الديانات والمذاهب، هو الطريق الوحيد للخلاص مما هو فيه الآن، للخلاص من الطائفية المقيتة وقادتها المناهضين للهوية الوطنية ومبدأ المواطنة، الخلاص من القتل المستمر أو التهديد بالقتل أو تجريف البساتين والحقول أو السيطرة على دور سكن الناس وممارسة التطهير العرقي، كما يجري اليوم في محافظة ديالى، حيث توجد المليشيات الطائفية الشيعية المسلحة لعصائب الحق وبدر وحزب الله وغيرها. إنها مأساة العراق ومهزلته الراهنة.
في الوقت الذي يكافح الشعب ضد جرائم داعش، ترتكب جرائم باسم مناهضة داعش ضد قوى مناهضة لداعش في ديالى وفي غيرها. إن كسب المعركة ضد داعش، يستوجب كسب المعركة ضد الطائفية ومحاصصاتها المذلة للشعب العراقي، ضد الأحزاب الإسلامية السياسية التي تتشبث بالطائفية منهجاً لها وممارسة فعلية. إنها سوف لن تنتصر، ولكن لكي تنكسر وتختفي، ستقود إلى موت الكثير من الناس، وإلى خراب وبؤس وفاقة البلاد وشعبها.