عند متابعة مواقف العراقيين العرب إزاء تطور الأوضاع بإقليم كردستان العراق غير المعزولة عن مجمل الفوضى السائدة ببغداد بشكل خاص وإصرار الكتل السياسية على نهج المحاصصة الطائفية والأثنية المستهجنة من قبل الشعب العراقي، ستواجه المتتبع ثلاثة مواقف متباينة، تنطلق من أرضيات فكرية وسياسية مختلفة، ويسعى كل منها إلى تحقيق مجموعة من الأهداف والمصالح، وتتخذ أبعاداً متباينة ومتعارضة إلى حدود بعيدة نشير إليها في أدناه:
الاتجاه الأول: اتجاه فكري قومي يميني متشابك مع اتجاه إسلامي سياسي رفض منذ عقود وما زال يتصدى لحق الشعب الكردي في تقرير مصيره، وضد حصوله على الفيدرالية ضمن الدولة العراقية وبالتالي، يرى أي نداء في تقرير المصير هو انفصال غير مشروع ومناهض للعراق وشعبه والعروبة. كما يرى بأن سياسات حكومة الإقليم كلها سلبية مناهضة للعراق، وعلى الحكومة الاتحادية أن تكون صارمة في مواقفها ضد حكومة وسياسات الإقليم.
وهذه القوى الفكرية والسياسية تخضع للذهنية العنصرية والشوفينية العربية من جانب، ومن قوى ذات موقف إسلام سياسي يرفض الاعتراف بالقوميات ويلتزم بما يسمى بالأمة الإسلامية.
ولكن نفس هذا التيار، وحين يكون في الحكم، يصبح أكثر شوفينية من الشوفينيين، سواء أكانوا عرباً أم فرساً أم تركاً أم كرداً. والممثل الشرعي لهذا الاتجاه هم البعثيون والقوميون العرب اليمنيون المناهضون لحق الشعوب في تقرير مصيرها، إلا حق الشعب العربي في الوحدة وصهر القوميات الأخرى أو دمجها بالعرب.
الاتجاه الثاني: اتجاه فكري وسياسي نشا حديثاً وبرز في أعقاب سقوط الدكتاتورية البعثية. وهذا الاتجاه يعتبر وجود الإقليم ضمن الدولة العراقية لا يساعد على التقدم والتطور بسبب سياسات الإقليم التي تؤجج الصراع بين السنة والشيعة لكي تستفيد من هذا الصراع لصالحها وليس لصالح الشعب الكردي. وكان هؤلاء قبل سقوط الدكتاتورية يقفون إلى جانب نضال الشعب الكردي ووجوده كفدرالية ضمن العراق. وبالتالي هم يدعون إلى الخلاص من وجود الإقليم ضد الدولة العراقية وعلى حكومة الإقليم إعلان استقلال الإقليم.
وهذه المجموعة الجديدة تتشكل من خليط غير متجانس من العرب، بعضهم ينحدر من فكر إسلامي وبعضهم كان أو ما يزال ينتمي إلى الاتجاهات التقدمية والديمقراطية اليسارية، وبعضهم من اتجاه قومي معتدل. إنهم يشعرون بالخيبة من سياسات حكومات الإقليم المتعاقبة ويجدون إنها لا تسهم في استقرار العراق، وإن الإقليم عملياً مستقل عن العراق. وبعضهم يعتقد بأن حكومة الإقليم غير قادرة على الانفصال، وهو يريد بهذا الطرح إحراجها بدعوتها إلى تنفيذ الانفصال لأسباب ترتبط بواقع المنطقة ومواقف الحكومات المحيطة بالإقليم والوضع الدولي بشكل عام وعدم وجود اتجاه دولي فعلي لإجراء تغيير حقيقي في الجيوسياسية للمنطقة.
الاتجاه الثالث: اتجاه فكري وسياسي ديمقراطي وتقدمي يرى إن من حق الشعب الكردي تقرير مصيره بنفسه، حين يجد إمكانية واقعية وفعلية لاتخاذ مثل هذا القرار، سواء أكان في البقاء ضمن إطار الدولة العراقية، أم بإقامة دولة كردستانية مستقلة في هذا القسم من كردستان الكبرى.
وهذا القرار يفترض أن تتخذه الأحزاب والقوى السياسية الكردستانية مجتمعة، حين تجد ذلك ممكناً ومحسوباً جيداً وبعيداً عن المغامرة. ولا يرى هذا الاتجاه صواب التهديد باستخدام هذا الحق بإعلان الاستقلال أو الانفصال، إذ إن هذا التهديد لا يخدم النضال المشترك في المرحلة الراهنة، وما دام إقليم كردستان ما يزال في إطار الدولة العراقية، بل يثير المزيد من المشاكل دون مبرر. وهذا الاتجاه يرى بأن سياسات حكومات الإقليم خلال الفترة التي أعقبت سقوط الدكتاتورية لم تكن باستمرار صائبةً في العديد من القضايا الجوهرية والتي لم تحظ باستمرار بتأييد الشعب الكردي أو كل قواه السياسية، ومنها بشكل خاص السياسات الاقتصادية، ومنها النفطية وغياب التنمية الصناعية والزراعية، والسياسة الاجتماعية والثقافية والتعليمية، إذ إنها لم تكن مدروسة ولا مبرمجة بصورة علمية وعلى وفق الحاجة الفعلية للإقليم.
والمشترك بين أوضاع العراق الاتحادي والإقليم يبرز في وجود الفساد المستشري وسيطرة الأحزاب الحاكمة على كل أجهزة الدولة والإقليم وضعف أو غياب الاستعداد للاستماع إلى الرأي الآخر.
والفارق بينهما يبرز في أن الوضع بالإقليم غير خاضع لقوى الإسلام السياسي إلا بحدود معينة، ووجود الأمن وندرة العمليات الإرهابية، ووجود بناء مشاريع عمرانية بعيدة عن التنمية، بالرغم من الفساد، في حين أن الوضع على المستوى الاتحادي يعاني من سيطرة هذا الاتجاه الديني الطائفي، وغياب التنمية كلية وسيادة الفساد.
الاتجاه الثالث يحاول أن يرى الجانبان، الإيجابي والسلبي، في أوضاع كردستان العراق وينتقدها بوضوح ودون مجاملة. هذا الاتجاه حريص على تحقيق وحدة النضال ضد الفساد والإرهاب والتخلف ومن أجل الأمن والسلام والتقدم ما دام الإقليم ضمن الدولة العراقية، وليس إلى جانب تشديد الصراع والإساءة للشعب الكردي بأي حال، والتمييز بين الشعب والقوى السياسية، سواء الحاكمة منها، أم غير المشاركة في الحكم. كما يفترض التمييز في مواقف الأحزاب السياسية الكردستانية إزاء القضايا المطروحة، فليست كلها بوجهة فكرية أو مواقف سياسية واحدة. وينعكس نشاط هذه الاتجاهات الثلاثة في ما تنشره من كتب ودراسات ومقالات فكرية وسياسية واجتماعية وفي ما تمارسه عملياً من فعاليات وما تصرح به.
وإذا كان الاتجاه الثالث يمارس النقد المخلص ويتمنى على الشعب الكردي أن يواجه أخطاء حكوماته وأحزابه السياسية بالصرامة والحزم وفي النضال السلمي وفي منح أصواته في الانتخابات بما يساعد على الإلزام الشرطي باحترام حقوق الإنسان والدستور واحترام حرية الراي والصحافة والتنظيم والتداول السلمي الديمقراطي للسلطة واحترام القواعد الديمقراطية في العمل السياسي وعدم التشبث بالسلطة دون وجه حق دستوري، فأن الاتجاه الثاني يوجه النقد من رؤية إلى حد غير قليل متحاملة وغير ودية، وبالتالي يصعب اعتبارها مساعدة لتحقيق التغيير الديمقراطي المنشود بالإقليم، رغم إن لديه انتقادات وملاحظات سليمة، ولكن أسلوب التناول والوجهة يصعب هضمها من جانب الشعب الكردي، دع عنك الحكومة والأحزاب الحاكمة.
أما الاتجاه الاول فهو لا يرى في الإقليم، إلا كما كان يعبر عنها النظام البعثي الفاشي، باعتباره "جيباً عميلاً!" مرة لإيران، وأخرى لتركيا، وثالثة لإسرائيل، أو للولايات المتحدة الأمريكية. ومثل هذا النقد العدواني الشرس مرفوض وسيء، وينطلق من مواقف مسبقة الصنع ولا يمكن تغييرها، لأنها قائمة على أيديولوجية عنصرية وشوفينية ضد القوميات الأخرى وضد حق تقرير المصير.
واعتقد بأن الشعب الكردي وقياداته السياسية مطلوب منه المساهمة الفعالة في الرغبة الصادقة والمشتدة لدى المزيد من أبناء وبنات شعب العراقي بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه في التغيير الجذري للنظام السياسي القائم على المحاصصة الطائفية والأثنية، والعمل من أجل إقامة الدولة المدنية الديمقراطية والمجتمع المدني الديمقراطي الذي يعتمد الدستور الديمقراطي والتداول السلمي الديمقراطي للسلطة على مستوى العراق والإقليم في آن والاهتمام بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية، رغم المصاعب المالية التي يعاني منها العراق ومعه الإقليم.
إنه الطريق الوحيد والسليم لتحقيق ما يسعى له الشعب العراقي بكل قومياته وكذا الشعب الكردي ومصالحه الوطنية والقومية.
إم وقوف الإقليم كمتفرج فيما يجري ببغداد ليس في مصلحة الإقليم ولا العراق عموماً.
وأتمنى مخلصاً إن يجد هذا الراي قبولاً لدى الساسة الكرد والشعب الكردي، ولدى قياداته السياسية المشاركة في الحكم، ولدى رئاسة وحكومة إقليم كردستان العراق.