هكذا هي سياسات من فقد الحكمة والرشاد، وأدار ظهره للواقع المتغير، وتشبث بالأوهام، وتمسك بذات السياسات العقيمة التي أوصلت العراق إلى المستنقع الذي حط فيه.
إنها السياسات الطائفية المريضة والجامحة بسبب خشيتها من نهاية حكمها، وبسبب عمق عداءها للآخر ورغبتها في الثأر منه، إنها السياسات التي أدارت ظهرها للشعب ومصالحه وإرادته وحقوقه، وحين نهض الشعب مطالباً بتلك الحقوق المشروعة التي كرسها الدستور، رغم نواقصه، أتهمته بما تعاني هي منه، أتهمته بالبعثية والاندساس.
بهذه التهمة الخسيسة، وبهذا الموقف العدواني إزاء الشعب ووحدته ومصالحه، صدر البيان البائس عن التحالف الوطني الشيعي الذي أراد به تشويه المتظاهرين والمعتصمين، تماكماً كما فعل المستبد بأمره في العام 2011 حين اتهم المتظاهرين بكونهم بعثيين ومندسين ومتآمرين وداعشيين!
لو كان قادة التحالف الوطني يمتلكون ذرة من حياء لما تجاسروا على اتهام المتظاهرين الذين قدر عددهم بأكثر من 40 ألف متظاهر اقتحموا خطأ المنطقة الخضراء، ولكنهم لم يعتدوا على أحد ولم يدمروا قنفة ولا كرسياً ولم يسيئوا لأحد، بل كان همهم الأساس تذكير رئيس الوزراء المتشبه برئيسه، بأنه لم يف بوعوده كلها، سواء أكانت حماية الناس من الإرهابيين الذين يقتلون يومياً بالعشرات، أم بمحاربة الفاسدين الذين يجلسون معه في حزب واحد وتحالف واحد وآخرين متحالفين معه في الحكومة، أم لم يوفر الخدمات الضرورية للعائلات الفقيرة والملتاعة، بل ازداد عدد الفقراء والمعوزين الذين هم تحت خط الفقر الدولي، وتفاقم تهريب الأموال، رغم تراجع الإيرادات، وسكت عمن سلم الموصل للدواعش ومن تسبب بقتل 1700 مجند متدرب شيعي فقط في معسكر سبايكر، ولم يكن بينهم مواطن سني أو مسيحي أو إيزيدي أو مندائي واحد، رغم ادعاء المستبد بأمره السابق بأن نظام الحكم غير طائفي وأن سياساته غير طائفية، فمات الجميع دفعة واحدة، وكلهم شيعة!!
رئيس الوزراء الحالي يتوهم تماماً حين يعتقد بأن البعثيين هم الذين يوجهون المظاهرات والاعتصامات، ويتوهم رئيس الوزراء وتحالفه الشيعي المأزوم بأن هناك مندسين حركوا هذه المظاهرات لاقتحام الحي الحرام، قصور وبيوت البعثيين السابقين.
إنه الغضب الذي لا يريد أن يفهمه رئيس الوزراء، الذي فقد البوصلة تماماً وتشمخر على شعبه أكثر من أي وقت مضى، وراح يتماهى مع رئيس حزبه الذي تسبب وحلفاءه بما يعيش تحت وطأته العراق وشعبه. وكم كان الدكتور فارس كمال نظمي على حق حين كتب في موقعه على الفيسبوك ما يلي:
" كل من استوطن في قصور وبيوت المنطقة الخضراء خصوصاً في سنوات الاحتلال، لا بد أنه واجه لمرات عديدة شبحَ صدام حسين متجولاً بين الغرف والقاعات والحدائق والسراديب.
فشعرَ عندها – شاء أم أبى- أنه بيدقٌ أخرق من البيادق البائسة لذلك الدكتاتور، بل لعله تخيّلَ نفسه مرغماً أنه ليس أكثر من "بعثي" بالبدلة الزيتونية الآثمة، وقد نبتتْ له الآن لحيةٌ أو عمامةٌ أو على الأقل ندبةُ "ورع" على جبهته. “، ثم أردف بما يلي: "بإيجاز.. السلطة الحاملة لفيروس "البعث" تريد تلويث الحركة الاحتجاجية به كي تدفع عن نفسها لا شعورياً شبهة إصابتها -هي- بهذا الوباء!".
دعونا نتذكر المثل العربي القديم القائل: رمتني بدائها وانسلت!
نحن أمام فئة حاكمة ضالة، ركبها الطمع في الحكم والمال والنفوذ، واجتاحها التعصب الطائفي والقومي الجامحين، وغاب عن هذه الفئة الحاكمة دون استثناء العقل والتفكير الإنساني، إذ استمرأت السحت الحرام والحكم بالباطل وتكنيز النقود وتوسيع العقارات بغير حق، وأغاضت الشعب فلم يعد قادراً على السكوت، ويصلح هنا قول الشاعر جميل صدقي الزهاوي:
يا مليكاً في ملكهِ ظلَ مسرفاً فلا الأمن موفورُ ولا هو يعدلُ
تمهل قليلاً لا تغِض أمةً إذا تحــركَ فيهـا الغيضْ لا تتمهلُ
وأيديكَ إن طالت فلا تغترر بها فـأن يـدَ الأيـــامِ منهــنَ أطــولُ
والغريب بالأمر أن مكتب رئيس الوزراء حيدر العبادي أصدر بياناً نشر على موقع قناة الحرية جاء فيه: "أعلن مكتب رئيس الوزراء حيدر العبادي ان التحقيقات بأحداث التظاهرات الاخيرة عند المنطقة الخضراء لم تثبت إطلاق الاجهزة الامنية النار على المتظاهرين.". هل يمكن لإنسان عاقل أن يصدق هذه الفرية الجديدة. لم يطلق أحد النار باتجاه المتظاهرين، ولكن يبدو أن القتلى هم الذين انتحروا وأن 500 جريح هم الذين جرحوا أنفسهم.
إنهم لا يعلمون بأن حبل الكذب قصير، وأن ليس غير أجهزة الأمن المسؤولة عن حماية المنطقة الخضراء هي التي أطلقت تلك النيران واستخدمت خراطيم المياه وكذلك الغازات المسيلة للدموع.