لم تتحقق هذه المهمات الجوهرية خلال الفترة المنصرمة بل زاد الأمر سوءاً مما استدعى نهوض جديد للحركة المدنية الشعبية تحقق في آب/أغسطس من العام 2015، وهي امتداد طبيعي لحركة 2011. وقد أثرت هذه الحركة الجارية باتجاهات عدة نشير إلى أبرزها فيما يلي:
1.تحريك المزيد من الجماهير الشعبية وخاصة الفئات الكادحة المرتبطة بالسيد مقتدى الصدر والتي اقترن عملها قبل ذاك بالصراع ضد قوى الاحتلال وبعض القوى الشيعية المشاركة في البيت الشيعي، وخاصة بجناحها العسكري المدعو بجيش المهدي، والذي يسمى اليوم بسرايا السلام. حيث بدأ هذا التيار الديني الشيعي يتحرك باتجاه مطالب المنتسبين إليه والداعمين له والمرتبطين بدور العائلة الديني (تقليد والده ومن ثم تقليده من حيث الفتاوى الدينية لأتباعه). وبدأت مطالبة مقتدى الصدر، وتحت ضغط أتباعه إلى محاربة الفساد ومحاسبة المفسدين والإرهاب وضد المحاصصة الطائفية والحكم الطائفي.
2.وكان هذا الموقف يسجل تحولاً ملموساً في صفوف التيار الصدري (الأحرار) التابع له والممثل في مجلس النواب، إضافة إلى بعض التوجه صوب ضرب بعض الفاسدين من أتباع التيار البارزين في التيار الصدري. ولا شك في أن عمق وسعة وأهمية هذا التحول ستبرز في الفترة الجارية وفي النضال من أجل الدولة المدنية وضد المحاصصة الطائفية والفساد...الخ.
3.تحريك للحوزة الدينية الشيعية المتمثلة بالسيد علي السيستاني الذي وجد الحوزة في وضع غير مناسب جماهيرياً بسبب تأييده المستمر للأحزاب الإسلامية السياسية المتحالفة في الائتلاف الوطني أو البيت الشيعي، والتي انتشر في صفوفها ليس الفساد والرثاثة فحسب، بل والصراع على السلطة والمال والنفوذ إلى أقصى الحدود وتركت الجماهير تعاني الأمرين، إضافة إلى ما تسببت به من احتلال لمناطق العراق الغربية ونينوى. وبالتالي طالبت الحوزة الدينية الساستانية بتنحية المالكي بشكل غير مباشر فحسب، بل وبمحاربة الفساد والمفسدين وبالدفع صوب الدولة المدنية ولأول مرة في تاريخ السيد علي السيستاني.
4.اتساع قاعدة النشطاء من المدنيين في الحراك المدني الشعبي والناس المتضررين الذين شعروا بعمق الأزمة التي يعيش تحت وطأتها العراق، والعواقب الوخيمة التي جرها النظام السياسي الطائفي على المجتمع العراقي. وقد أدركت النخب الإسلامية الحاكمة بأنها لم تعد قادرة على الحكم على وفق السياسات والوسائل أو الأدوات والأساليب السابقة، مما فرض عليها الحديث عن الإصلاح الجزئي، والمقصود الشكلي، لكي تستطيع البقاء في الحكم. ولم يكن تنكيس الرؤوس إلا لتجنب العاصفة، والذى تجلي بالموافقة على تغيير نوري المالكي بحيدر العبادي، وهي الطريقة المثلى لها لتجنب التغيير الجذري الذي بدأت الحركة المدنية الشعبية والجماهير الغاضبة، والمتزايد عدد المشاركين في الاحتجاجات، تفرضه على القوى الحاكمة.
قوى التيارين المدني والديني ودورهما
في الحراك الشعبي
تشير معطيات الشارع العراقي إلى وجود تيارين فاعلين يساهمان في تحريك المزيد من المثقفين والأوساط الشعبية لصالح عملية التغيير والإصلاح الديمقراطي والتخلص من نظام المحاصصة الطائفية والتمييز والفساد والإرهاب، وهما:
أ. الفكر المدني التنويري الذي تتبناه القوى اليسارية والمدنية واللبرالية الديمقراطية العلمانية. وهو التيار الفكري الفاعل والمتطور تدريجاً والأكثر جذرية، إلا إنه ما يزال لا يمتلك النفوذ والتأثير الواسعين والمنشودين على الشارع العراقي، وعلى قاعدة واسعة من الجماهير الكادحة وفئة المثقفين، رغم وجود التيار الديمقراطي وفعله البارز والمستمر ببغداد وفي جميع محافظات الوسط والجنوب.
ب. الفكر الديني المنفتح نسبياً والمؤثر على نسبة مهمة جداً من كادحي محافظات الوسط والجنوب وبغداد الشيعية والمؤيَد، بهذا القدر أو ذاك، من قوى إيجابية في الأوساط الشعبية السنية، وليس بين المسؤولين السياسيين من أتباع المذهب السني، بسبب رفض التيار الصدري للمحاصصة الطائفية وتأكيده على المواطنة ورفض التمييز ضد السنة. وهذا التيار قد تطور بشكل ملموس منذ العام 2014 حتى الوقت الحاضر.
إن بين هذين التيارين نقاط التقاء سياسية، ونقاط اختلاف فكرية وسياسية في آن واحد. فهما يلتقيان في المرحلة الراهنة في النضال ضد المحاصصة الطائفية، وضد الفساد والهيمنة على السلطات الثلاث، والدفاع عن مصالح الكادحين المنتسبين إلى هذا التيار والمؤيدين له، ومن أجل توفير الخدمات الأساسية، وضد البطالة وتفاقم الفقر وتعاظم نهب خيرات البلاد والمطالبة بإحالة المسؤولين عن احتلال الموصل والفساد المستشري إلى المحاكمة.
ولكنهما يختلفان من حيث الفكر ووجهة تطور العراق، والنظام السياسي الذي يراد إقامته.
وهو خلاف كبير وجذري دون أدنى شك.
ولكن المرحلة النضالية الراهنة تستوجب اللقاء مع كل المعارضين للطائفية السياسية والمحاصصة، وكل الداعين إلى محاربة الفساد والمطالبين بمعالجة البطالة والفقر، ومنهم قوى التيار الصدري، في النضال الشعبي في الشارع العراقي، واستناداً إلى تلك الأهداف المباشرة. وهذا الموقف المسؤول يتطلب رؤية موضوعية واضحة وملزمة لقوى التيار الديمقراطي والحراك الشعبي المدني بالنسبة لنقاط الاتفاق والاختلاف، لكي لا تذوب الفوارق إلى الحد الذي يمكن أن تفقد القوى الديمقراطية اللبرالية معه استقلالية نضال القوى المدنية في سبيل مجتمع مدني ديمقراطي حديث وعلماني.
إن نضال قوى الحراك المدني الشعبي في الشارع العراقي يسمح بلقاء قوى وقواعد التيار الديني الصدري، ويسهم في الدخول بحوارات ونقاشات فكرية وسياسية تسهم في بلورة الكثير من المسائل المهمة لتلك القوى الكادحة والمضطهدة والمهمشة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً والمتضررة بيئياً.
والتي يمكن أن تسهم في تطوير قوى التيار الصدري وتدفع بها صوب تبني الدولة المدنية الديمقراطية، وهوية المواطنة المتساوية والموحدة، وفصل الدين عن الدولة، والفصل بين السلطات الثلاث، واستقلال القضاء، بسبب التجارب المريرة التي تعيشها دول منطقة الشرق الأوسط.
ومن يتابع نقاشات الشارع العراقي وقوى التيار الديمقراطي يدرك بوجود تحفظات معينة على العمل المشترك في الشارع العراقي مع قوى التيار الصدري، وبخاصة بين جمهرة من الشباب، إذ أن تجارب التحالفات السياسية السابقة وعلى امتداد الفترة التي أعبقت انتصار ثورة تموز 1958، لم تبشر بالخير العميم وغالباً ما انقلب الحلف على الحلفاء. ولهذا فلا بد من أخذ تحفظات الشبيبة بنظر الاعتبار أولاً، والتعلم من تجارب الماضي غير البعيد ثانياً، وعدم الانجرار، مع من يتم التيار الديمقراطي التعاون معه في الشارع، إلى ما يقوم به ذلك الطرف على وفق ما يسعى إليه، والذي يمكن أن يقود على عواقب وخيمة في غير صالح التيار الديمقراطي أو المجتمع أو الحركة المعارضة للنظام السياسي الطائفي ومحاصصاته المذلة.
وبهذا الصدد قدم الزميل الدكتور فارس كمال نظمي دراسة غنية وجديدة حول التيار الصدري والحراك الشعبي وآفاق الوضع بالعراق نشرت على صفحات الحوار المتمدن تحت عنوان "لتقارب المدني – الصدري في ساحات الاحتجاج: رؤية نفسية في ديناميات اليساروية الاجتماعية"، في باب الثورات والانتفاضات الجماهيرية، الحوار المتمدن-العدد: 5227 – 18/7 / 2016 "، من المهم الاطلاع عليها ومناقشتها بعلمية وموضوعية لأهمية مثل هذه الدراسات في المرحلة الراهنة، بغض النظر عن مدى اتفاق أو اختلاف القراء معه.
فنحن بالعراق بحاجة ماسة على مبادرات في طرح الرؤية المدققة لعملية التغيير وآليات وسبل هذا التغيير الديمقراطي والسلمي المنشود.
أن عملية تغيير النظام السياسي الطائفي القائم عملية نضالية معقدة ومتشابكة وليس بالضرورة قصيرة الأمد، إنها عملية سيرورة وصيرورة نضالية تعتمد على قدرة القوى المناضلة على رفع مستوى وعي الجماهير ودورهم في عملية التغيير التي تعني ممارسة عملية إصلاح جذرية للدولة والمجتمع من جهة، وتستوجب تعبئة أوسع الجماهير للنضال من أجل التغيير من جهة ثانية، إذ أن الدولة والمجتمع قد سقطا منذ عقود في حمى الاستبداد والقهر السياسي والاضطهاد الاجتماعي والفاقة الفكرية والسياسية والبؤس الاقتصادي والاجتماعي والفساد الناهب لخيرات وموارد البلاد، وعانا وما زالا يعانيان من العنصرية والشوفينية والتمييز الديني والمذهبي والطائفية السياسية المقيتة.
كما يعاني المجتمع من فساد الدولة بسلطاتها الثلاث وفساد المجتمع ومؤسساته وأغلب أحزابه السياسية. ومثل هذا الوضع لا يمكن أن يخلوا من العنف والاضطهاد والإرهاب الفكري والسياسي والنفسي.
إن التغيير المنشود يستوجب مشاركة جميع القوى المعارضة، إذ لا يمكن لقوة بمفردها وبجماهيرها تحقيق التغيير.
ولهذا لا بد أن تلتقي كل القوى المناضلة لتحقيق التعاون في ما بينها استناداً إلى وضع برنامج يمثل الحد الأدنى الممكن الاتفاق عليه، ويتضمن في الوقت نفسه الحد الذي تقرره ظروف العراق وقدرات النضال الشعبي، وليس في ما نتخيله ونرغب به ولا يتجانس أو يتناغم مع الواقع المعاش فعلياً. إن البرنامج المنشود يمكن أن يشمل الجوانب السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والبيئية والنفسية وعلاقات العراق الخارجية، الإقليمية منها والدولية.
كما إن البرنامج يفترض أن يتضمن حلولاً واقعية لمشكلة النازحين والمهاجرين الذين زاد عددهم اليوم عن أربعة ملايين إنسان عراقي بالداخل، دع عنك المهاجرين إلى خارج العراق والذين بلغ عددهم الآن أكثر من أربعة ملايين أيضا، وهو في زيادة شهرية مستمرة. إن وضع برنامج مشترك لا يعني بأي حال فقدان التيار الديمقراطي أو الحراك المدني الشعبي لبرنامجه الخاص في التغيير وتطوير العراق وتقدمه. وهذا الموقف يشمل التيار الصدر أيضاً أو أي قوة أخرى تبدي الاستعداد للتعاون والعمل والنضال المرحلي المشترك.
إن هذه العملية تستوجب وعياً لدى المجتمع، بحيث يكون مستعداً على تحمل تبعات التغيير السلمي والديمقراطي للبلاد، التي تقترن اعتيادياً بتعقيدات غير قليلة تحصل أثناء وقوع مثل هذه التحولات الضرورية في المجتمع.
ومثل هذا البرنامج يفترض أن تضعه لجنة واسعة وواعية لواقع العراق وإمكانيات وضرورات التغيير والإصلاح الجذري الشامل للدولة والمجتمع.
ويفترض أن يتضمن البرنامج تنظيم عودة النازحين والمهجرين قسراً إلى مناطق سكناهم، وتعويضهم ومساعدتهم ليعيدوا بناء مساكنهم وحياتهم الاعتيادية وعودة السلم والاستقرار لهم.
كما يتطلب البرنامج وضع الأسس القانونية الضرورية لإقامة علاقة سليمة بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان العراق وحل كل المشكلات العالقة، سواء بالنسبة للمناطق المتنازع عليها، أم قضية النفط والتنمية أم رواتب البيشمركة...الخ، بعد أن أصبحت العلاقة متدهورة وبلغت حالياً الحضيض.
ويبدو لي بأن هناك مهمة مؤجلة منذ سنوات، وأعني بها إعادة كتابة الدستور العراقي لعام 2005 بما يصحح القضايا غير الديمقراطية والطائفية والمخالفة للأسس الديمقراطية في حياة المجتمع، وبشكل خاص موضوع الدولة المدنية الديمقراطية العلمانية، إضافة إلى تخليصه من المواد التي تعتبر حمالة أوجه..الخ، وهي كثيرة.
إن المجتمع العراقي قادر على التغيير، وهو يعي باستمرار وأكثر فأكثر الحضيض الذي حط به العراق بسبب فكر وسياسات وممارسات القوى والأحزاب الإسلامية السياسية، الشيعية منها والسنية وبعض القوى القومية الشوفينية والضيقة الفق في آن واحد، والتي كانت وما تزال ضد إرادة ومصالح الغالبية العظمى من الشعب العراقي بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه واتجاهات الفكرية والسياسية الوطنية والديمقراطية.