تحية واحترماً
لقد فكرت كثيراً قبل أن أوجه هذه الرسالة لجنابكم، ولكن شعرت، وللمرة الثالثة، بضرورة الكتابة لكم، لأنكم، من الناحيتين الدينية والاجتماعية، تتحملون مسؤولية كبيرة ورئيسية في مواجهة التدهور المتفاقم في الأوضاع المعقدة والمتشابكة والعسيرة التي يمر بها شعب العراق بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه الدينية والفلسفية والسياسية، ولما وصل إليه العراق في ظل قيادة الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية، (البيت الشيعي والتحالف الوطني) للحكم بالبلاد.
فلو عدنا إلى السنوات الأولى بعد إسقاط الدكتاتورية البعثية – الصدامية الغاشمة، لواجهتنا الحقيقة التالية: أنتم أول من زكى الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية ذات النهج الطائفي المقيت، بعد أن وضعهم المحتل الأمريكي-البريطاني في مقدمة المكونين لمجلس الحكم الانتقالي ورئاسة الوزراء الثانية، وأنتم من طلب من أتباع المذهب الشيعي بالعراق تأييدهم، وأنتم أول من دعوتم إلى انتخابهم في الانتخابات العامة لثلاث دورات انتخابية، 2006، 2010 و2014، وأنتم أول من عجل بسن الدستور الدائم الراهن، الذي يحمل بصمات طائفية وبعيدة عن روح المواطنة وحيادية الدولة ودستورها وسلطاتها الثلاث إزاء أبناء وبنات البلد الواحد، وأنتم أول من ساعد على تكريس النظام السياسي الطائفي بالبلاد. ولهذا فمسؤوليتكم كبيرة من جوانب ثلاثة:
الجانب الأول: تدخلكم كمرجعية دينية مذهبية شيعية بالسياسة، لا كمواطن عراقي له الحق في العمل السياسي، بل كمرجعية شيعية، في حين إن أغلب من تولى المرجعية الدينية في حوزة النجف لم يتدخل بالسياسة، ما عدا السيد محسن الحكيم، وكان أسوأ من قاد الحوزة الدينية بالعراق في فترة الستينيات من القرن الماضي، وأول من شارك في العمل والدعوة للتحالف مع الشيطان، حزب البعث والقوميين الشوفينيين لإسقاط حكومة عبد الكريم قاسم، وبتأييد ودعم من شاه إيران حينذاك.
الجانب الثاني: أنكم سمحتم لهذه الأحزاب وقياداتها بالتصرف بالمال العام دون أن تتحدثوا وتدينوا دورهم في نهب المال العام، مال الشعب ودون أن تتصدوا فعلياً، وليس قولاً عبر وكلاؤكم بكربلاء والنجف، لهؤلاء الأشخاص الذين تصرفوا باسم الدين الإسلامي والمذهب الشيعي، واستندوا إلى تأييدكم لهم، وهم الذين تستروا بكم لنهب البلاد وسبي العباد!
الجانب الثالث: وعلى مدى سنوات تعرض بنات وأبناء الوطن الواحد، من مسيحيين ومندائيين وإيزيديين إلى أبشع الانتهاكات والتهديد بالقتل والتشريد والسطو على دورهم ومحلات عملهم وما يملكون من قبل المليشيات الطائفية الشيعية المسلحة في الوسط والجنوب وبغداد قبل أن يتعرضوا لإجرام عصابات القاعدة ومن ثم داعش، دون أن يجري التنديد بهم والتصدي لهم وشجب سياسات الحكومة العراقية منذ العام 2005-حهى العام 2014م من جانب المرجعية الدينية في النجف أو من جانب المؤسسات الدينية السنية.
وفي العام 2014م، ولأول مرة وبعد خراب البصرة، اتخذتم موقفاً أخر، تميز بالوعي للمخاطر التي أصبحت تحيط بالبلاد، وبعد أن يَسّرَ رئيس الوزراء السابق، ومن معه من حزبه وقائمته وتحالفه الوطني، بسياساته الهوجاء وطائفية الجامحة والمقيتة، اجتياح الموصل ونينوى، وقبل ذاك الأنبار وصلاح الدين والحويجة وديالى. إذ ساعد موقفكم الجديد، مع الاحتجاجات الشعبية المتصاعدة والمآسي والكوارث التي تعرض أهل نينوى بشكل خاص، وقبل صلاح الدين والأنبار وديالى، بتغيير رئيس الوزراء المستبد بأمره وجيء برئيس وزراء جديد من نفس الحزب والقائمة والتحالف الوطني، الذي لم ينفذ ما وعد به من تخلي عن الطائفية السياسية ومحاصصاتها المذلة للشعب العراقي ومن إصلاحات وتغيير فعلي في الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي بالبلاد. لقد وعدكم ووعد الشعب والحراك اشعبي وأخلف الوعد وواصل السير على سياسة سلفه في أغلب الأمور، فيما عدا موضوع الحرب ضد داعش، والذي تلعب القوات المسلحة العراقية والبيشمركة دوراً هاماً في ذلك، وبدعم من القوات الجوية الأمريكية وغيرها.
إن دعوتكم للجهاد باعتباره "فرض كفاية" لعب دوراً في تطوع الكثير من المؤمنين المخلصين لشعبهم، ولكنه فسح في المجال في الوقت ذاته للميليشيات الطائفية الشيعية المسلحة، التي ارتكبت الكثير من الجرائم وخاضت المعارك ضد الميليشيات الطائفية السنية المسلحة ومارست معها عمليات القتل على الهوية، إضافة إلى ممارساتها ضد المسيحيين والصابئة المندائيين وغيرهم، والتي تأتمر بأوامر السيد علي الخامنئي مرشد الثورة الإسلامية الإيرانية، أن تسيطر على "الحشد الشعبي" ووضعه تحت قيادتها، وخاصة تحت قيادة شخصيات سياسية عسكرية إيرانية وأخرى عراقية بانحياز إيراني. وهنا سيواجه المجتمع العراقي مشكلة أكبر تعقيداً حتى من وجود داعش، الذي سيقتلع قطعاً، مشكلة مع الميليشيات الطائفية المسلحة المنتمية إلى الحشد الشعبي، بعد التحرير مباشرة، لأنها ملغومة بعناصر طائفية كارهة للآخر وانتقامية لم تع ولم تتعلم من دروس التاريخ حتى الآن، ويبدو أنها لا تريد أن تتعلم ايضاً. وهي تتصرف بالضبط بنفس الذهنية الطائفية لرئيس الوزراء السابق الذي تحدث من مدينة كربلاء حين روج مدعياً استمرار الصراع بين أنصار الحسين وأتباع يزيد! وكان تحريضاً مكشوفاً ضد أبناء الشعب من السنة، على وفق الموروث الشعبي الخاطئ السائد بين الأوساط الشيعية ذات الوعي المزيف والمشوه.
السيد السيستاني المحترم، أنتم أدرى مني بأن الأجهزة الأمنية والحرس الثوري الإيراني يهيمنان على مواقع حساسة في بنية المئات من الحسينيات والجوامع المقامة بالعراق، وكذلك في جامعة المصطفى، التي صرف على كل ذلك مئات الملايين من الدولارات الأمريكية، والتي أنيطت بها مهمات لا تخدم استقلال العراق وسيادته، بل تساهم في تحويله إلى مستعمرة خاضعة خانعة للحكام بإيران، وإلى تجهيل الشعب بنشر الخرافات والأساطير واللطم والتطبير وضرب الزناجيل (السلاسل) عبر المعممين الفارغين من العلم والمعرفة، والتي نادراً ما تمارس بإيران. ويفترض أن لا تقبلوا بذلك في كل الأحوال. إنهم لا يساهمون في تنوير الشعب دينياً واجتماعياً، بل العكس من ذلك، وهي كارثة إضافية يصاب بها العراق. لقد أصبح العراق تدريجاً ساحة للصراع بين السعودية وقطر وتركيا من جهة وإيران وحزب الله من جهة أخرى!
وعلى وفق قناعتي فأنكم كمسؤول عن أعلى مرجعية بالنجف، ومعكم بقية المرجعيات الشيعية، والمؤسسات الدينية السنية، تتحملون مهم إصلاح ما خرب دينياً واجتماعياً وسياسياً، برفع التأييد عن هذه الأحزاب والجماعات والشخصيات الفاسدة التي أبتلي بها العراق وفي غفلة من الزمن كما ابتلى قبل ذاك بالبعثيين والقوميين الشوفينيين والطائفيين، والدعوة المركزة والمستمر على إقامة دولة مدنية علمانية تلتزم بمبدأ أساس هو "الدين لله والوطن للجميع". إن تأثير المرجعية الدينية الشيعية والمؤسسات الدينية السنية البارز على أتباعهما المؤمنين يفترض أن يتوجه صوب تأكيد الحرص على الوطن والالتزام بمبدأ المواطنة الحرة والمتساوية، وبعيداً عن التمييز القومي والديني والمذهبي، وبذلك تقدمون خدمة للوطن والمواطن، رجلاً كان أم امرأة. فهل أنتم فاعلون؟ هذا ما أتمناه، وارجو ألا أكون ممن يمكن أن يطلق عليهم القول، "التمني رأس مال المفلس!".
إن هذه الرسالة موجهة لسماحتكم، ولكنها موجهة في الوقت عينه إلى كل أبناء وبنات الشعب العراقي ليدركوا الوضع الذي أوصلتهم إليه الطائفية السياسية ومحاصصاتها المذلة والابتعاد الاستبدادي عن مصالح الشعب وحقوقه وحرياته!