في صالون الحلاقة الذي اعتدت عليه منذ سنوات صادفت شاباً عشرينياً يبدو أنه لم يقرأ شيئاً عن التاريخ السياسي للعراق، وبعد حديث عام بادرني بالسؤال: أيهما أفضل النظام الملكي أم الجمهوري؟ فأجبته: يفترض الجمهوري.
فقال: يقولون عبد الكريم قاسم دمر العراق حين قضى على الملكية. فقلت له: ومن قال لك بأن الملكية أفضل؟ فقال: يقولون.
فقلت له: للملكية محاسنها ومساؤها وكذلك الأمر مع نظام قاسم، فلكل حقبة سياقها التاريخي.
قال: أرجوك اخبرني أية حقبة بنظرك كانت الأفضل للعراق؟ فقلت له: كل الحقب متساوية، لكن الأكثر سوءاً هي حقبة البعث، حروب خاسرة وملايين الضحايا، مقابر جماعية، قمع، إرهاب، سجون، إعدامات... إلخ.. وهي التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه من تدهور.
فقال: يعني العراق لم يستقر في كل تاريخه؟
فقلت له: ربما نستثني سنتين على أيام المرحوم عبد الرحمن عارف، كان شخصية هادئة يمارس عمله بمثابة موظف ينتهي دوامه فيذهب إلى بيته. فقال: أراك تتهرب بذكاء من الحديث عما بعد سقوط صدام؟
فقلت: لا.. ولكن أحاول أن أبين لك أفكاراً عامة عن حقب سياسية لم تعشها ولم أعشها أنا كذلك، باستثناء حقبة البعث التي بدأت وأنا في الصف الأول الابتدائي وعايشتها منذ الطفولة حتى عبرت العقد الرابع من عمري.
فقال: إذا لم تعش تلك الحقب فكيف عرفت عنها كل هذه المعلومات. قلت له: كنا نسمع ممن هم أكبر منا، والأهم من ذلك كنا نقرأ ونبحث ونقارن وما نزال، لكنكم اليوم غير مبالين بشؤون بلدكم. فقال: هل تعتقد أن النظام الديمقراطي الذي نحن عليه الآن هو الأفضل؟
فقلت له: أفضل بكثير لو أنه كان حقاً ديمقراطياً. فقال: كيف؟ انتخابات وبرلمان وتظاهرات..
فقلت له: نعم.. ولكنها ديمقراطية منقوصة، شوهتها المصالح والمنافع الحزبية والطائفية والجهوية والتدخلات الخارجية؟
فقال: أليست الديمقراطية تعني اشتراك الجميع بالحكم؟ فقلت: نعم.. لكن ليس بالمحاصصة، وإنما بصناديق الاقتراع، وبفصل السلطات، وفصل الدين عن الدولة، وتقييد الأحزاب بقوانين صارمة تحدد وتراقب شرعية تمويلاتها، وبحصر السلاح بيد الدولة، وبتغليب الكفاءات على الولاءات.. إلخ..
فرد يائساً: أهووووو..
يعني (ورانا حصبة وجدري)!!.
طبعاً اختزلت الكثير مما دار بيني وبين الشاب الذي أشعرني حقيقية بالتقصير، تقصيرنا نحن الأكاديميين والإعلاميين بحق شبابنا الذين سيطرت عليهم تكنولوجيا الاتصالات الذكية بما تتناقله من معلومات بالإشاعة، وبما تشيعه من ثقافات استهلاكية، فهذا الشاب ذكرني بشاب آخر التقيته قبل سنوات، وكان حديث الشارع آنذاك موضوع تغيير العلم العراقي، كان متحمساً لنشر علم القوميين والبعثيين ذي النجمات الثلاث على السطوح والأبواب، ولا يعلم أن آلاف الضحايا اعدموا تحت ساريته، وحين شعر الدكتاتور المقبور بدنو أجله في حرب تحرير الكويت خط عليه عبارة (الله أكبر) لمغازلة الشعوب المسلمة، فذلك الشاب كان يعتقد جازماً بأن هذا العلم هو علم العراق منذ الخليقة، على حد تعبيره (من بداية الكون) وقس على ذلك.