بخصوص موجة الهجرة التي شهدتها الأسابيع الأخيرة، هل هي فعلاً مخطط لإفراغ البلد من طاقاته الشابة كما يزعم البعض؟! أم هو قرار إنساني اتخذته دول العالم رأفة بأولئك الشباب الذين يتعرضون للابتزاز والموت؟ لا سيما أن صورة الطفل السوري المنكفئة جثته على شاطئ البحر قد هزت العالم، وقد ابتلعت البحار مئات من العراقيين والعرب والأفارقة، وكان غرق أكثر من(400) عراقي في مطلع القرن من أسوأ حوادث الهجرة غير الشرعية، فقد كان بين الضحايا نساء وأطفال، وأشارت اعترافات بعض الناجين منهم بأصابع الاتهام للسلطات الأسترالية لتباطئها بنجدتهم.
نعود للسؤال ذاته، فنقول إذا كانت ثمة مؤامرة حقاً، فالأولى بنا أن نعمل على إفشالها، لا بالتنديدات، ولا بمنع الهجرة أو تحريمها، بل بالعمل على توظيف تلك الطاقات، وتأمين حياة حرة كريمة لفئة الشباب التي وصلت لأقصى درجات اليأس، كان العراقيون يفرون من قمع النظام الدكتاتوري المباد، ومن أساليبه المهينة بتجويع الشعب لإخضاعه وتركيعه، ثم راحوا يفرون من النزاعات الطائفية، ومن الإرهاب وعصابات داعش، ومن البطالة وسوء الخدمات، ولكل مهاجر مبرراته، وللأنظمة الأوروبية مبرراتها الإنسانية أولاً، ثم مصالحها المستقبلية في توظيف الطاقات التي يمكن الاستفادة منها، بالمقابل للوطن حق على أبنائه في الدفاع عنه وتحمل العناء لعبور المحنة، بشرط توفر بصيص من الأمل.
المواطن العراقي في خضم ما يعانيه فقد الأمل على ما يبدو، لغياب المشروع الوطني الذي يسوغ له بقاءه ويرسخ صموده، فقد نفد صبره لأسباب عديدة، تتحمل الدولة جزءاً كبيراً منها، لم تعد أمامه نقطة ضوء يأمل الوصول إليها، فقد تداعت الوعود وأحبطت الآمال، وبرغم كل ما تتخذه الحكومة الحالية من خطوات نحو الإصلاح، لم تخرج من دائرة الترشيق والتقشف الاقتصادي، فإن ملفي الأمن والفساد لا يزالا قيد المراوحة، على إن انخفاض أسعار النفط وما تبعه من تخلخل في الموقف الاقتصادي زاد الأمر تعقيداً وسوءاً، وربما أصبح تردي الخدمات ملفاً ثانوياً أمام تخوفات الشارع العراقي من انهيار الحالة الاقتصادية.
نحن بحاجة إلى أن نمنح الشباب أملاً في مستقبل حقيقي، وليس لهذا الأمر أدبيات رومانسية أو دعائية، بقدر ما له خطط للتنمية البشرية، وإجراءات للنمو الاقتصادي، تمتص البطالة وتؤمن الخدمات الضرورية، وتضمن للمواطن حقوقه في التعليم والرعاية الصحية والسكن اللائق وتوظيف طاقاته لخدمة بلده، ومن ثم اكتسابه لأهميته بوصفه عضواً فاعلاً في المجتمع، نحتاج أن نوفر للشاب العراقي مغريات وطنية تجعله يفتخر بانتمائه وولائه، ويدافع عن حريته في وطن يتساوى فيه مع غيره برابطة المواطنة التي تشعره بالمساواة وتكرس في ذهنه مفاهيم العدالة والحق والسلم والبناء، وتتيح له فرص الاشتراك بإدارة البلد، والتنافس على الوظائف العامة بناء على معايير الكفاءة والمؤهلات العلمية والنزاهة، وبهذا سيكون أقوى من أن تنطلي عليه المؤامرات... إن وجدت.