ليست مشهورة السيدة أليفة، ليست كاتبة او سيدة اعمال كبيرة او حتى صغيرة، ليست سياسية محترفة، ليست حتى موظفة عادية، ولا سيدة مجتمع.
"ست بيت" هي وأمٌ، غير عادية.
في سلسلة مقالاتي التي نويت كتابتها حول سيدات مميزات في المهجر، كنت انوي الكتابة عن الناجحات في العلم والعمل، عن مناضلات سعوا الى تحقيق نجاحات على صعيد شخصي وايضاً اجتماعي وانساني ولكن لم يخطر ببالي ان اكتب عن سيدة بسيطة تدعى 'اليفة' -ليس اسمها الحقيقي ولكن مشتق منه- ولم يخطر ببالي انها مميزة، الى هذه الدرجة. ولم يخطر ببالي اني سأتأثر بشخصية مثلها تأقلت وترفعت الى مراتب عالية عندي حتى اني اسميتها "المناضلة الصامتة" ووعدت نفسي ان اكتب عنها وعن مثيلاتها المثابرات الصامتات القويات بالرغم من منظر الضعف فيهن وممارسة العنف عليهن.
اليفة اسمها وهي اليفة، أنيقة، تنتقي ألوان ملابسها المحتشمة بتأن، ألوان هادئة ناعمة كوجهها الستيني الأبيض الناعم ذو ملامح جمالية جذابة عالية يطوقه حجابها الراكز على رأسها والأمين على شعرها الثمين.
ما كان اكتمل جمال اليفة لو ما تحدثت.
كان هذا لقائي الثاني بها، في بيتها، مع زوجها وابنها. اللقاء الاول كان في بيتي حيث اثارت انتباهي واهتمامي بالرغم من مساعي زوجها المتعددة والمتكررة ان يسلب منها اي ضوء واي اهتمام يعطيها اياه الاخرين وان يقطع عليها الطريق في التعبير عن رأيها –أي كان- وان تُفضى له الساحة كي يصول ويجول ويحكي عن خبراته في الحياة و"علمه" و"فهمه" ومحاولاته عبثاً ان يُظهر زوجته على انها غبية وانها لا تتقن التحدث بين الناس وفي المجتمعات ومع النساء المتعلمات وانه هو .. هو رب الكلمات والاحاديث والدنيا تتمحور حوله من ذكائه الشديد. لكن كل محاولاته البائسة لم تكن الا لترفع من مستوى اليفة الفكري والاخلاقي ويقلل من مستوى زوجها، على الاقل في نظري. حتى اني وجدته وقحاً في معظم الاحيان، مستقتلاً على الفوز في اي حديث او جدال يكن حتى ولو كان هو غير معني بذلك. وفي المرة الثانية زرتهم في بيتهم للمرة الاولى – والاخيرة - وهناك استقبلتني أليفة بابتسامة كريمة عريضة وكان كل ما بها يكتظ بمشاعر عدة منها التوتر ومنها – للاسف - الخوف، وكأنها تدعي الى ربها ان يكون أداؤها اليوم يرضي زوجها المريض وان يمر اليوم، على خير.
بدت قلقة مطمئنة، فرحة تعسة، متألمة معافية، مكسورة قائمة، ضعيفة قوية، مقهورة جبارة وبدا عليها تماسك ملحوظ وهدوء.. هدوء لم افهمه ولم افهم كيف تحافظ عليه بالرغم من كل ما في حولها ينطق بشر عظيم وكأن حيطان منزلها يكاد يصرخ مما شهده من عنف وصريخ وشتائم وتهديد ووو واكاذيب.
بدت في حيرة كيف تداري وكيف تعالج خطايا زوجها واولادها، واقول خطايا هنا ولست اعني اخطاء بل خطايا كبيرة لا يحملها انسان، ومنها حب التسلط والاستقواء والاستخفاف بقيمة وكرامة الناس وممارسة العنف عليهم باليد او باللسان.
تعجبت من أمر أليفة، من صوتها المنخفض، من ركازتها حتى عندما قاطع زوجها حديثها وهي تجيبني على سؤالي لها عن ما تنصح به البنات الصغاروالنساء في أيامنا هذه. قاطع حديثها وقال بكل وقاحة: اسأليني أنا.
وكأن رأي زوجته لا يهم وهو العارف بالامور وهي لا. لم يرف لها جفن.
عجبت حقيقة من شيء آخرعظيم لفتني اليها، الا وهو محاولتها الانصات للاخرين ولو في عز الخلاف.
عجيبة كانت في رباطة جأشها وعزيمتها وقرارها ان لا تترك احد يترك بيتها زعلاناً عكس زوجها الذي لا سيطرة له لا على لسانه ولا تصرفاته ولا افكاره ومن شدة تطرفه وحبه لذاته ينسى الاخرين وينسى اكرام الضيف ولا يأبه ان اغضبهم وترك الضيف غاضباً ام لا من كلامه الثقيل ضارباً بعرض الحائط كل الاعراف والتقاليد واحترام الضيف.
وعجبت لامر أليفة، عجبت لصبرها عليه وسألت نفسي كثيراً بعدما تركتها، يا ترى كم الف مرة بكت وكم الف مرة عانت وكم الف مرة صرخت ولم يسمعها احد؟ وكم مرة خافت.. كم مرة رجفت.. وكم مرة صرخ بوجهها رجلها الباسل وكم من مرة اشاحت بوجهها عنه تتمنى لو ينتهي صراخه الذي يصم أذنيها؟
وسألت نفسي وانا في السيارة عائدة الى بيتي، يا ترى ماذا سيفعل الان بها؟
أليفة مثال المرأة المُعنفة، وبكل معنى الكلمة. وهي مثال المرأة الصابرة حتى على ابنائها وابنتها التي ورثت – وهم ورثوا ايضاً - عن ابيها تسرعه والتعدي على الغير باليد او باللسان وبدون حق. ليست هذه مزايا اهل القرى التي تتمثل بالكرم والجود وطول البال ولكنهم يبدو انهم شذوا عن القاعدة قليلا فكان هذا من قلة حظ أليفة.
ذكرّتني أليفة بي ولكن الفرق انها صمتت وانا لم اصمت. وانها قبلت بالظلم وعاشت معه وانا لم اقبل ولن اقبل. وانها اضاعت عمرها في إرضاء فلان وعلان ونسيت نفسها وكانت ولا زالت تقول "السترة فقط يا رسول الله".
سأذكرك ايتها الفاضلة، انت واخلاقك الذين علقوا في مخيلتي واتمنى ان يجمعني القدر بك انت فقط مرة اخرى في المستقبل لوحدنا، نشرب قهوتنا وتحكين لي عن كل ما شاهدته في حياتك وكيف عشت مع الظلم وكيف علينا ان نواجه آفة المجتمع في التسلط والوحشية والتسرع والهمجية.
مميزة أليفة وهي من النساء اللواتي اتباهى بمعرفتي لهن وانها الجانب الايجابي الوحيد الذي احاط كل سلبيات لقاءاتنا.
والى لقاء آخر مع سيدة مهجرية مميزة من بلدي.