أمن المعروف أن الأمم والشعوب تتكاتف في الأوقات الصعبة عندما تتعرض لعدوان خارجي، من منطلق أن لا صوت يعلو على صوت الدفاع عن الوطن وصيانة حرمة أراضيه، وتتناسى القوى والأحزاب السياسية خلافاتها الداخلية مهما بلغت حدتها. وهذا ما شاهدنا في بريطانيا أعرق البلدان الديمقراطية في العالم عندما توحد حزبا المحافظين والعمال في حكومة إئتلافية واحدة في زمن الحرب العالمية الثانية لمواجهة الخطر النازي القادم من ألمانيا، وفي بلدان أخرى كثيرة.
إلاّ أننا نلاحظ بأسف أن الحال مختلف تماما في العراق الذي يتعرض حاليا إلى أكبر حملة شرسة من قبل عصابات إرهابية تكفيرية تساندها قوى إقليمية ودولية مختلفة، للقضاء على العراق وطنا وشعبا وحضارة.
فبدلا من أن تتكاتف جهود القوى والكتل السياسية وترص صفوفها في جبهة وطنية موحدة لمجابهة الخطر الخارجي الذي يستهدفها جميعا، فإذا بنا نرى أن بعض هذه القوى توظف محنة العراق لتحقيق مصالح فئوية ضيقة بصرف النظر عن مشروعيتها من عدمه. وقد تجسد ذلك جليا بإستيلاء قوات البيشمركة الكردية على محافظة كركوك وعدد من مدن وقصبات كثيرة في محافظات ديالى وصلاح الدين ونينوى التي إضطرت القوات المسلحة العراقية الإنسحاب منها في إعقاب غزو عصابات داعش وإحتلالها لمحافظات نينوى وصلاح الدين والأنبار عام 2014 حيث أصبحت هذه العصابات على مشارف بغداد، بينما يفترض أن يهب الجميع لصد هذه الهجمة البربرية الداعشية دفاعا عن العراق الواحد الموحد.
واليوم إذ يقف العراق على كف عفريت حيث تتقاذفه الصراعات السياسية الطائفية والأثنية وينخر الفساد المالي والإداري جسد الدولة العراقية الذي أنهكته الحروب المدمرة، ويشهد إنهيارا غير مسبوق في نسيجه وبنيته الإجتماعية وقيمه الأخلاقية، يسعى قادة إقليم كردستان لإجراء إستفتاء ليس لسكان محافظات الإقليم فحسب، بل ولسكان محافظة كركوك والمدن والقصبات التي إستولوا عليها وضموها قسرا لإقليم كردستان من منطلق فرض الأمر الواقع خلافا لإحكام الدستور، الذي أسهم الساسة الأكراد بإعداده وصياغته وإقراره بمعاونة الحليف الأمريكي، الذي لولا رعايته وحمايته لهم لما كان بإمكانهم تحقيق كل ما حققوه من مكاسب ومغانم.
وهاهم اليوم يفتعلون معارك جانبية بعدم السماح للعوائل العربية التي إضطرت للنزوح من مناطق سكناها للعودة إلى مناطقها بعد أن حررت من قبضة عصابات داعش، وإعاقتهم تقدم القوات العراقية لتحرير قضاء الحويجة أحد أهم معاقل داعش في محافظة كركوك، والصدام المسلح مع تركمان قضاء طوز خرماتو أكثر من مرة، والسيطرة على شركة نفط كركوك، وآخرها تحدي الحكومة المركزية برفع علم إقليم كردستان في جميع المباني الحكومية في محافظة كركوك.
نصت المادة (1) من الدستور العراقي على أن جمهورية العراق دولةٌ اتحادية واحدة مستقلةٌ ذات سيادة كاملة، نظام الحكم فيها جمهوريٌ نيابيٌ (برلماني) ديمقراطيٌ وهذا الدستور ضامن لوحدة العراق.
وقد أكدت المادة (13) من الدستور على أن الدستور هو القانون الأسمى في العراق، ويكون ملزما في أنحائه كافة، وبدون إستثناء، ولا يجوز سن قانونٍ يتعارض مع هذا الدستور، ويُعد باطلاً كل نصٍ يرد في دساتير الاقاليم، او أي نصٍ قانونيٍ آخر يتعارض معه.
فهل يا ترى أن مشروع قيام الدولة الكردية المنشودة في ظروف العراق المضطربة سيكون ضامنا لوحدة العراق؟ ولا يتعارض مع الدستور الذي لم يفوض أية جهة القيام بأي إستفتاء لتقسيم العراق إلى دويلات تحت أي ظرف كان، حيث أكدت المادة (3) من الدستور أن العراق بلدا متعدد القوميات والأديان والمذاهب. وحددت المادة (109) مسؤولية السلطات الإتحادية بالمحافظة على وحدة العراق وسلامته واستقلاله وسيادته ونظامه الديمقراطي الاتحادي.
كما أن ضم المناطق التي إستولت عليها قوات البيشمركة الكردية إلى الإقليم، مخالف تماما لنص المادة (140) من الدستور التي حددت تولي السلطة التنفيذية المنتخبة بموجب هذا الدستور، إنجاز إجراءات (التطبيع، الاحصاء، وتنتهي باستفتاء في كركوك والمناطق الاخرى المتنازع عليها، لتحديد ارادة مواطنيها). وهو أمر لم يتم تنفيذه حتى الآن بسبب تردى الأوضاع الأمنية في العراق من سيئ إلى أسوء.
لذا فإن إجراء الإستفتاء من قبل الإقليم قبل إجراءات التطبيع والإحصاء ليس من صلاحيات حكومة الإقليم ومخالف تماما للدستور، فعليه أن ما يبنى على باطل فهو باطل في أحسن أحواله، ناهيك عن تبعاته الأخرى التي لا تحمد عقباها.
وإذا سلمنا جدلا أن إعلان الدولة الكردية لا يتعارض مع الدستور العراقي، فهل يا ترى جاء إعلانها في الوقت المناسب حيث تعم الفوضى أرجاء العراق، وينعدم فيه الأمن والآمان، فضلا عن غياب حكومة عراقية قادرة على البت في مثل هذا الأمر الخطير الذي ينجم عنه حتما تقسيم العراق وتفتيته إلى كيانات أثنية وطائفية هزيلة، ومشاكل لا حصر لها على ترسيم الحدود وتقاسم الثروات الطبيعية والموارد المائية وتهجيرأعداد غير قليلة من السكان من مناطق سكناهم بهدف التطهير الأثني والطائفي. يضاف لذلك موقف دول جوار الإقليم التي جميعها تضم أكرادا يفوق عددهم عدد أكراد العراق، ولا يتمتعون بأبسط حقوقهم القومية، ناهيك عن التطلع لإقامة كيان خاص بهم.
وما الحروب الدائرة بين الأكراد وحكومات تلك البلدان منذ سنين إلاّ خير شاهد ودليل. وإزاء وضع كهذا كيف ستتواصل الدولة الكردية المنشودة مع العالم الخارجي وهي ليس لديها أي منفذ عبور واحد في الأقل؟.
ولعل من المفيد أن نشير هنا أيضا إلى ما سيخسره العراق من إعادة رسم الخرائط في المنطقة بعد أن أعلن رئيس إقليم كردستان أن سايكس بيكو جديد قد بدأ الآن، إذ سبق أن تخلت الحكومة العثمانية للحكومة الإيرانية، عن مدينة المحمرة وجزيرة خضر والمرسى والأراضي الواقعة على الضفة اليسرى من شط العرب، وجميعها مناطق عراقية، وضمان حق الملاحة للسفن الإيرانية في شط العرب بملء الحرية، وذلك في محل مصب شط العرب في البحر، إلى نقطة إتصال حدود الفريقين، مقابل تنازل الحكومة الإيرانية عن مطالبها بعائدية مدينة السليمانية ومنطقتها، وتعهدها بعدم تدخلها بسيادة الحكومة العثمانية على تلك المنطقة، وعدم التجاوز عليها، كما ورد ذلك في المادة ( 2) من ملحق معاهدة أرض روم الثانية المعقودة في 31 مايو 1847.
من ذلك نرى أن ضم منطقة السليمانية أحد أهم مدن إقليم كردستان إلى العراق كان قد تم بثمن باهض دفعه العراق بخسرانه منطقة المحمرة وما يجاورها بموجب هذا الإتفاق الذي لم يكن العراق طرفا فيه.
فهل يا ترى ستتمكن الدولة الكردية المنشودة من رسم الخرائط من جديد وإعادة ما خسره العراق من أراضيه، أم أن
ذلك أمرا لا يعنيها، أو أن لا يكون للعراق رأيا عندما يريد الآخرون تقسيمه، وكأن الأمر شأن كردي فقط لا يعني العراق وشعبه وما يترتب على ذلك من خسارة المزيد من أراضيه دون مقابل.
عليه، نقول أن تقرير مصير أي مكون من مكونات الشعب العراقي أمر لا ينحصر بذلك المكون فقط، بل هو يعني جميع المكونات لما يترتب عليه من آثار تمس مصالحها جميعا. لذا ينبغي أن يدرس قرار كهذا بحكمة وتروي، ويتخذ القرار بصورة توافقية لضمان مصالح البلاد والعباد كافة كما هو جار حاليا في جميع القرارات العراقية التي هي أقل أهمية من ذلك.
وثمة ملاحظة أخرى مثيرة للريبة هي هذا الحماس الإسرائيلي لإقامة الدولة الكردية كما يعلن ذلك قادة إسرائيل جهارا نهارا،فقد أعلن بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي، في معهد جامعة تل أبيب لدراسات الأمن القومي قبل مدة، "أن إسرائيل تدعم إقامة دولة كردية مستقلة في شمال العراق، حيث صرح قائلا إننا بحاجة إلى دعم التطلعات الكردية من أجل الاستقلال. إنهم يستحقون ذلك، هناك تغيرات تاريخية تحدث في جميع أنحاء المنطقة، وهي ذات تداعيات مهمة للأمن الإسرائيلي ولأمن العالم.
لقد وصلت اتفاقية سايكس - بيكو التي شكلت حدود منطقتنا منذ ما يقرب من مائة عام إلى نهايتها".
تابعونا في العدد القادم..
وأكده ثانية قبل أيام بترحبيه بقيام دولة كردستان التي وصفها بأنها ستكون عامل إستقرار في المنطقة بإنضمامها إلى محور الدول المعتدلة التي تضم أيضا بعض الدول العربية للحد من النفوذ الإيراني في المنطقة ومحاربة الإرهاب على حد وصفه.
كما تشير الأنباء إلى أن الرئيس الإسرائيلي السابق شيمعون بيريس، أخبر الرئيس الأمريكي السابق أوباما بأنه يعتقد أن العراق لن يستمر كدولة موحدة من دون تدخل عسكري ضخم، وهو مسار لا ينصح بانتهاجه، مضيفا أن الأكراد قد أنشأوا حكومة أمر واقع مستقلة خاصة بهم، بمساندة تركية.
وخلال حديثه مع كيري وزير الخارجية الأمريكي السابق، قال ليبرمان وزير خارجية إسرائيل إن "العراق ينهار أمام أعيننا، وإقامة الدولة الكردية هي صفقة منتهية".
يأتي هذا التأييد الإسرائيلي في إطار سياسة إسرائلية ثابتة منذ عقود، تهدف إلى تفتيت الدول العربية وتقسيمها كلما أمكنها ذلك، فقد نشرت مجلة ”كيفونيم “(اتجاهات)، وهي مجلة لليهودية والصهيونية، في العدد رقم14/ شهر فبراير (شباط) 1982، بخصوص العراق، حيث جاء فيها أن "العراق، دولة غنية بالنفط من جهة، وممزقة داخليا من جهة أخرى، وهي مرشح مضمون للأهداف الإسرائيلية.
إن انحلال العراق هو أكثر أهمية بالنسبة لنا من انهيار سوريا. فالعراق أقوى كثيرا من سوريا. وتشكل القوة العراقية أكبر تهديد بالنسبة لإسرائيل على المدى القصير. الحرب العراقية - الإيرانية سوف تمزق العراق تمزيقا وتتسبب في السقوط الداخلي، حتى قبل أن يستطيع العراق تنظيم صراع جبهوي على نطاق واسع ضدنا.
كل نوع من المواجهة بين الدول العربية يصب في مصلحتنا، وسوف يختصر الطريق إلى الهدف الأكثر أهمية وهو تفتيت العراق إلى طوائف كما هو الحال في سوريا ولبنان.
في العراق، يمكن إحلال التقسيم إلى محافظات على أساس عرقي - ديني على غرار سوريا خلال العهد العثماني. لذا، سوف توجد ثلاث دول أو أكثر حول ثلاث مدن رئيسة: البصرة، وبغداد، والموصل. وسوف تنفصل المناطق الشيعية في الجنوب عن المناطق السنية والكردية في الشمال". فهل يا ترى بات تنفيذ المشروع الإسرائيلي بتفتيت العراق قاب قوسين او ادنى؟. وخلاصة القول أن إعلان قادة إقليم كردستان عن نيتهم إجراء إستفتاء لتقرير مصير أكراد العراق في الوقت الحاضر لا يصب في مصلحة العراق ولا في مصلحة الإقليم على الحد السواء، نظرا لما يشهده العراق والإقليم من مشاكل جمة، ليس على صعيد الأمن وحسب، بل إفتقار العراق القيادة السياسية القادرة على البت في هكذا قرار يحدد مصير شعب العراق بعربه وأكراده وسائر قومياته لأجيال قادمة، فضلا عن إنعدام التوافق بين جميع الكتل السياسية وصراعاتها في الإقليم وفي بقية أنحاء العراق في معظم القضايا السياسية، أبسطها عدم توافق الكتل السياسية الكردية على موضوع رئاسة الإقليم التي إنتهت مدة إشغالها وعدم رغبة رئيس الإقليم الحالي التخلي عن موقعه خلافا لدستور الإقليم، وتعطيل أعمال الحكومة والبرلمان في الإقليم، كما أن قوات البيشمركة ما زالت مليشيات تابعة للحزبين الرئيسين الديمقراطي الكردستاني والإتحاد الوطني الكردستاني، ولا زال هناك الكثير من الخلافات بين السليمانية وأربيل حول معظم القضايا، وهناك خلافات حادة في صفوف قادة الأتحاد الوطني في غياب مؤسسه جلال الطالبي بسبب مرضه كما تتناقل ذلك وسائل الإعلام.
ولا شك أن الحال أسوأ بكثير في بغداد حيث الريبة والشك وكل أنواع الفساد تسود أوساط النخب السياسية. فإجراء الإستفتاء وحق تقرير المصير يجب أن يتم في ظروف عراق آمن ومستقر وقادر على حماية نفسه، وليس في عراق تعصف به رياح عاتية، وبخلافه سينتقل العراق بجميع قومياته من سيئ إلى أسوء.
ويتوهم كثيرا أن من يعتقد أن قيام الدولة الكردية المنشودة دون توافق جميع العراقيين بعربهم وكردهم وتركمانييهم وقومياتهم المختلفة، سيكون أفضل حظا من جمهورية مها آباد الكردية التي أقاموها في إيران عام 1946بمساندة القوات السوفيتية الغازية ولم تستمر أكثر من (11) شهرا. ويحدونا الأمل أن يتدارك حكماء الكرد مخاطر ما سيترتب على الإستفتاء من مشاكل وصراعات سيكون لها أول ولن يكون لها آخر.