الجامعة مؤسسة من مؤسسات المجتمع، وهي بذلك تتأثر سلباً أو ايجاباً بحسب تطور المجتمع ورقيه وتطوره وإنفتاحه فكرياً وثقافياً وحضارياً. ففي البلدان التي تعتمد نظم سياسية إستبدادية، يكون هامش الحرية المتاحة للجامعات ضيقاً ومحدوداً، وليس أمام الجامعة الاّ السير في فلك النظام السياسي السائد طبقاً لعقيدته السياسية ويكون النظام الجامعي في هذه الحالة نظاماً تعليمياً مغلقاً، تخنق فيه الحريات الى أبعد مدى، ويخضع بإستمرار الى إجراءات المراقبة والإشراف للتأكد من إنسجامه مع إتجاهات وتوجهات النظام الحاكم.
أما في النظم التي تعتمد التعددية السياسية وأساليب الحياة الديمقراطية، فإن الحال يختلف تماماً إذ تتمتع الجامعات بحرية عمل واسعة في تسيير أمورها العلمية والتربوية وبما يتوافق مع نهج مجتمعاتها بعيداً عن مفاهيم الحزبية الضيقة والمغالاة والتعصب الأعمى وتأثيرات جهات الضغط المختلفة. وبرغم أجواء الحرية هذه الاّ أن ذلك لا يعني إنفصام الجامعة عن مجتمعها وبيئتها، بل العكس من ذلك، إذ تندمج الجامعة إندماجاً تاماً بهذه المجتمعات وتعي حاجاته وإهتماماته بدقة، وتسعى لتحقيقها، لاسيما وإنها تعتمد إعتماداً أساسياً على الحكومات والمؤسسات الصناعية بتمويل برامجها. وهكذا كان حال الجامعات العراقية في الحقب السابقة تخضع بصورة أو بأخرى لسيطرة الحكومات المتعاقبة وتوجهاتها السياسية، وبرغم ذلك كانت تمتع هذه الجامعات بحرية كافية لتسيير شؤونها العلمية والأكاديمية طبقا للمعايير الأكاديمية والمهنية الدولية المتعارف عليها في الأوساط الجامعية، وبذلك إكتسب التعليم الجامعي العراقي سمعة جيدة لرصانته وجودة برامجه، أسهم بفاعلية بنهضة العراق وتقدمه.
وكلنا نتذكر تصريح الرئيس الأميركي السابق جورج بوش وهو يحرض الشعب الأميركي على العدوان على العراق بأن ما بلغه العراق من تطور علمي وتكنولوجي يهدد أسلوب الحياة الأميركية في الصميم.
ولاشك في ان الحصار الظالم الذي فرض على العراق منذ آب عام 1990 قد عاق حركة النهضة العلمية والتقنية في العراق بعامة والجامعات بخاصة.
إزدات الأمور سوءا بعد غزو العراق وإحتلاله عام 2003 حيث باتت الجامعات مسرحا للعصابات والجماعات المسلحة تمرح وتسرح فيه كما تشاء دون أن يستطيع أحدا تحريك ساكنا، نجم عنها إغتيال مئات التدريسيين وهجرة الآلاف منهم إلى خارج العراق طلبا للأمن والآمان .
قامت إدارة سلطة الإحتلال في مايس عام 2003 بمحاولة بسيطة لإضفاء بعض مظاهر الديمقراطية التي بشرت بها العراقيين قبل غزو العراق، تمثلت بإجراء إنتخابات في كل جامعة عراقية لإختيار رؤساء الجامعات ومساعديهم وعمداء الكليات من أعضاء الهيئة التدريسية بصورة مباشرة، والتي أفرزت للأسف قيادات جامعية هزيلة في معظمها، ربما بسبب هشاشة الوضع الأمني الذي ساد البلاد في ظل سلطة الإحتلال، ولم تكرر هذه التجربة مرة أخرى بعد أن تقاسمت أحزاب المحاصصة السياسية الوزارات، حيث آلت وزارة التعليم العالي لمكون طائفي معين، ووزارة التربية للمكون الطائفي الآخر، وإستمر الحال على هذا المنوال حتى يومنا هذا، مما أفرز أرثا طائفيا ثقيلا في كلا الوزارتين. ولعل من المفيد أن نشير هنا أن تبؤ الأساتذة لمواقعهم الإدارية بضمنها موقع رئيس الجامعة ما كانت تخضع يوما لمفاهيم الطائفية السائدة اليوم في الأوساط الجامعية العراقية، حيث كان أول رئيس لجامعة بغداد مسيحيا، تلاه في الموقع صابئيا.
كما أن تجربة الإنتخابات الجامعية ليست جديدة على الجامعيين العراقيين كما قد يتصور البعض إذ كان إختيار رئيس الجامعة في العهد الجمهوري الأول يتم عن طريق الإنتخاب من بين أساتذة الجامعة، حيث كان وقتها يحتدم الصراع بين قائمتين بصورة رئيسية، يتصدر الأولى الأستاذ الدكتور عبد الجبار عبد الله العالم الفيزياوي المعروف دوليا، وكانت تعرف هذه القائمة بالقائمة المهنية الموحدة التي تؤازرها الأحزاب الوطنية واليسارية، ويتصدر القائمة الثانية التي كانت تعرف بالقائمة القومية الموحدة، الأستاذ الدكتور عبد العزيز الدوري المؤرخ الإسلامي المعروف عربيا على نطاق واسع، وهي قائمة تؤازرها الأحزاب والتجمعات القومية والإسلامية، فضلا عن بعض الترشيحات الفردية.
كان الفوز بهذه الإنتخابات دائما لصالح القائمة المهنية الموحدة حتى سقوط حكومة الزعيم عبد الكريم قاسم/ حيث أودع بعدها رئيس جامعة بغداد الدكتور عبد الجبار عبد الله السجن لبعض الوقت ، ليستقر بعدها في الولايات المتحدة الأمريكية،ويرد له الإعتبار وعودته إلى العراق في العام 1959 .
ولعل من المفيد أن نشير إلى أن الإنتخابات الجامعية ليست بالأمر الجديد على الجامعيين، إذ أجريت لأول مرة في جامعة بغداد في عهد حكومة الزعيم عبد الكريم قاسم في أعقاب ثورة عبد الكريم قاسم عام 1958 لإختيار رئيس الجامعة حيث لم تكن هناك في تلك الحقبة سوى جامعة بغداد، وأجهضت تجربة الإنتخابات بعد سقوط حكومة عبد الكريم قاسم عام 1963.
واليوم بعد أن آل حال الجامعات إلى ما آل إليه من تدهور حاد ومستمر، نجم عنه تدمير شامل لجميع البنى التحتية والمرتكزات الأساسية لمنظومة التعليم العالي الى حد تصفية الكثير من العلماء والمبدعين والمفكرين بالأغتيالات تارة، وبالتهديد واجبارهم على ترك العراق تارة اخرى، دون ان يحرك احدا ساكنا، وكأن الأمر لا يستحق الأهتمام.
ونظرا لهشاشة منظومة التعليم العالي وإستشراء الفساد في جميع مفاصلها، وضعف قيادتها وإفتقارها إلى الرؤية العلمية الثاقبة، وعدم قدرتها على رسم السياسات العلمية والأكاديمية الصحيحة، وإفتقارها إلى الستراتيجية العلمية والتربوية التي يمكن أن تنبثق منها الخطط العلمية لإنتشال التعليم العالي من واقعه المزري، ولأجل بناء العراق القوي المزدهر بإذن الله، لا بد ان تتضافر الجهود الوطنية الخيرة لتأمين البيئة العلمية الصحيحة التي يمكن ان ينطلق فيها الإبداع العلمي الى اوسع مدياته.
لذا يجب إن يشهد التعليم العالي وضوحا أكثر في النظرة المستقبلية، وهذا يستلزم وضع خريطة متكاملة لواقع التعليم العالي ومستقبله من حيث عدد الجامعات والمعاهد وحجمها ونوعها وتوزيعها الجغرافي، كما يستلزم النهوض بالتعليم العالي الابتعاد عن القوالب الجامدة، وادخال انماط جديدة في التعليم العالي.
وقبل هذا وذاك لابد إن ينظر صانعو القرارات ومخططو التعليم العالي إلى إن الإنفاق على التعليم العالي هو ليس إنفاقا خدميا، بل هو في حقيقة الأمر إنفاقا استثماريا إن لم يكن هو حقا أبو الاستثمارات. لا يمكن لأمة إن تنهض وتزدهر حقا ما لم يزدهر التعليم العالي فيها وترتقي جامعاتها، مما يتطلب أن تتظافر الجهود الخيرة للارتقاء بالتعليم الجامعي وفق خطط علمية مدروسة بعناية فائقة للإيفاء بتحقيق متطلبات التنمية العلمية والتقنية التي تنشدها بلادنا. ولهذا الغرض ،نقترح الآتي:
1.إلغاء وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، واستحداث مجلس أعلى للتعليم العالي يضم كبار علماء العراق ورؤساء الجامعات ،تكون مهمته وضع الإستراتيجيات العامة للتعليم العالي ورسم سياساته دون الدخول في التفصيلات وأساليب التنفيذ التي يترك أمرها لمجالس الجامعات.
2.اعادة صياغة أهداف التعليم الجامعي وتحديد مهامه ووظائفه بوضوح لضمان ارتباطه وتلبيته لاحتياجات المجتمع بصورة فاعلة ومؤثرة والتأكد من عدم إسهامه بتفاقم ما بات يعرف ببطالة الخريجين ،أي تخريج ملاكات علمية غير قادرة على إيجاد أو خلق فرص عمل مناسبة لها، الأمر الذي يمثل هدرا" لا مبرر له بالطاقات الشبابية من جهة، وتبديدا" في المال العام الذي أحوج ما نكون إليه في التنمية من جهة أخرى، ناهيك عن المشاكل الاجتماعية والسياسية التي قد تنجم عن بطالة المثقفين والمتعلمين في أي مجتمع من المجتمعات.
3.اعتماد نظام وطني لتقييم أداء الجامعات والمؤسسات التعليمية تحت اشراف وادارة نخبة متميزة من علماء العراق ومبدعيه وذات مصداقية عالية واستقلال تام، لضمان جودة التعليم العالي وحسن اداء مؤسساته أكاديميا"وبما يتماشى مع حركة تطور العلوم والتقانة من جهة، وسد احتياجات المجتمع من جهة اخرى.
4.إصدار قانون خاص بالجامعات يحدد أهدافها ومهامها وينظم حياتها الداخلية ، تنبثق عنه أنظمة وتعليمات خاصة بكل جامعة لتسيير شؤونها وتنظيم إدارتها ،إضافة إلى تحديد واجبات وحقوق أعضاء الهيئة التدريسية.
5. صيانة حرمة واستقلال الجامعة من اى تدخل لضمان حرية الفكر الاكاديمي من اى تعسف او اضطهاد تحت هذه الذريعة او تلك.
6.فحص الأقسام العلمية والكليات والجامعات كافة القائمة حاليا للتأكد من استيفائها لشروط الرصانة العلمية المتعارف عليها دوليا والعمل على معالجة نقاط الخلل والضعف حيثما وجدت إذ شهدت الفترة المنصرمة استحداث أقسام وكليات وجامعات دون توفير أية مستلزمات لها.
7. التمييز بين الجامعات بحيث يكون بعضها جامعات بحثية مهمتها الأولى إجراء البحوث العلمية بهدف اثراء المعرفة ومهمتها الثانية التعليم واعداد الملاكات العلمية والتقنية وجامعات تعليمية مهمتها الأولى التعليم ومهمتها الثانية البحوث، وكما هو متبع في دول العالم المتقدمة، على ان يكون عدد الجامعات البحثية محدودا"جدا" لضمان أداء علمي متميز وإنجاز بحوث علمية راقية.
8.8. أن لا تكون الجامعات نسخا"مكررة لبعضها بحيث أنها تتشابه في تخصصاتها ومناهجها وأساليب الدراسة فيها ،وانما يترك لها مجالا" واسعا" للإبداع والتميز والتنافس العلمي وفق أسس واضحة لضمان استخدام المال العام بصورة جيدة وسليمة لصالح التنمية البشرية المطلوبة لرقي وتقدم بلادنا. ويفضل ان تتعاون الجامعات القريبة من بعضها بحيث تتكامل تخصصات بعضها مع البعض الآخر.
9.9. تحديد حجوم مناسبة للجامعات بين كبيرة ومتوسطة وصغيرة بحيث لايزيد حجم الجامعة الكبيرة على (50 ) ألف طالبا" وطالبة، وحجم الجامعة المتوسطة على ( 30 ) ألف طالبا"و طالبة والصغيرة على ( 15 ) ألف طالبا" وطالبة.
10.وحيث أصبح التعليم الجامعي أحد أهم أدوات التنمية الشاملة إذ أدركت الدول المختلفة أن المجتمعات المتعلمة أقدر من سواها على تحقيق معدلات عالية في التنمية، لذا ينبغي نشر التعليم الجامعي في جميع أرجاء البلاد بصورة عادلة ومتوازنة وبما يلبي احتياجاتها بكفاءة عالية وفق خطط علمية مدروسة بعناية فائقة وتامين جميع متطلباته واحتياجاته المادية والبشرية.
11.الإفادة القصوى من تقانات المعلومات والاتصالات لنشر التعليم على أوسع نطاق عبر برامج التعليم المفتوح والتعليم عن بعد والتعليم المسند بالحاسوب. وربما يكون الوقت مناسبا"لاستحداث جامعة عراقية مفتوحة إضافة إلى قيام الجامعات التقليدية باستحداث مراكز خاصة للتعليم المفتوح لتقديم برامج التعليم المستمر والتعلم مدى الحياة.
12.إعادة النظر بالمعاهد والكليات والجامعات الدينية لتتماشى مع روح الانفتاح والتسامح الديني ومراعاة خصوصية المجتمع العراقي الذي يتسم بالتعددية الدينية والمذهبية وحرية المعتقدات بعيدا"عن التطرف والمغالاة ومصادرة الرأي الآخر.
13.انفتاح الجامعات على مجتمعاتها المحلية باعتبارها مراكز إشعاع علمي وفكري وثقافي، والتفاعل مع تلك المجتمعات بما يسهم بتطويرها وتقدمها.
14.ربط التعليم العالي باحتياجات المجتمع وحركة السوق ،إذ لا يجوز تخريج ملاكات علمية أو تقنية لا يمكن الإفادة منها لما يمثل ذلك من هدر في الإمكانات وزيادة في إعداد العاطلين وما يترتب على ذلك من إفرازات سلبية في جميع مجالات الحياة.
15.إعادة تأهيل الملاكات التدريسية عامة وخريجي الجامعات العراقية خاصة من حملة شهادة الدكتوراه او ما يعادلها وذلك بإتاحة فرص التفرغ العلمي لهم وتنفيذ بعض البرامج العلمية التطويرية والقيام بجولات علمية بالتعاون مع جامعات رصينة وفق برامج معدة لهذا الغرض.
16.تآخي وتوأمة الجامعات العراقية مع جامعات أجنبية رصينة بهدف تبادل الخبرات العلمية وتنفيذ برامج التعاون المشترك في مجالات البحوث والنظم والمناهج الدراسية.
ومهمة وطنية إصلاحية كبرى كهذه لا يمكن تحقيقها من قبل قبل فرد واحد أو مجموعة أفراد، إنما هي مهمة وطنية تتطلب تضافر جهودا وطنية ودعما حكوميا على أعلى المستويات ومراقبة مجتمعية لضمان توجهاتها الصحيحة لخدمة المجتمع وبناء الوطن بناءا سليما.