كان التعليم العالي في العراق منذ نشأته وحتى عام 2003 تعليما راقيا ورصينا في جميع مراحله برغم ما إعتراه من ضعف هنا وهناك بسب الحروب المدمرة التي عاشها العراق وما رافقها وأعقبها من صراعات وتداعيات، كان أبرزها الحصار الطويل الظالم الذي فرض على العراق سنين طويلة. كان ينظر إلى التعليم العالي العراقي، بوصفه واحدا من أهم نظم التعليم العالي في منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي، حيث بني على قواعد ومرتكزات علمية وتربوية رصينة. إعتمد التعليم العالي منذ نشأته نظم التعليم العالي البريطانية والأمريكية في أساليبها وطرائقها ونظمها ومناهجها، وفي جميع مستلزماتها الدراسية من أجهزة علمية وكتب ودوريات، ذلك أن معظم تدريسييه وبخاصة الرعيل الأول كانوا من خريجي الجامعات البريطانية والأمريكية، وأن لغة التدريسات في الكليات العلمية هي اللغة الإنكليزية.
لذا لم يجد خريجو الجامعات العراقية أية صعوبات عند إبتعاثهم للدراسة في الجامعات البريطانية وجامعات بلدان شمالي أمريكا والبلدان الناطقة باللغة الإنكليزية. نوجز في أدناه أبرز مراحل التعليم العالي منذ نشأته وحتى يومنا هذا:
1. مرحلة الحكم العثماني
اقتصرت مهمة التعليم العالي خلال مدة السيطرة العثمانية على إعداد الموظفين ولاسيما القضاة والإداريين والمحامين لإشغال الوظائف الحكومية لمساعدة الباب العالي والسلطة المركزية في الآستانة في شؤون تصريف البلاد والسيطرة عليها.
2. مرحلة الانتداب البريطاني
كانت مهمة التعليم العالي إعداد الملاكات الإدارية والفنية لتيسير إعمال الدولة ومساعدة السلطة الإنكليزية في الحكم وبسط النفوذ، لذلك كان التعليم في اغلبه نظريا بعيدا عن واقع المجتمع ومقصورا على الصفوة المختارة.
3. مرحلة الحكم الملكي
استمر التعليم العالي بالاتجاه نفسه الذي كان سائدا في عهد الانتداب البريطاني أي تخريج الموظفين وإعداد الملاكات الفنية لتيسير أمور الدولة لذا طغت الدراسات الإنسانية والأدبية على الدراسات العملية، وفي الدراسات العملية كانت الدروس العملية الصرفة طاغية على دراسات العلوم التطبيقية والتكنولوجية. شرع قانون جامعة بغداد عام 1956 والذي أكد وضع الجامعة في خدمة المجتمع والإغراض القومية، فضلاً عن تشجيع البحث العلمي ورقي الآداب والعلوم والفنون وبعث الحضارة العربية والإسلامية.
كانت الكليات في هذه المرحلة مسرحا لنشاط الأحزاب السياسية في أوساط الطلبة، وبخاصة الأحزاب اليسارية والقومية، وهي بذلك كانت مصدر إزعاج للسلطات الحاكمة، حيث تنطلق منها المظاهرات والإحتجات الطلابية ضد السياسات الحكومية، أبرزها مظاهرات العام 1948 إحتجاجا على نية الحكومة إبرام معاهدة تعاون عسكري مع الحكومة البريطانية عرفت في حينها بمعاهدة بورتسموث، ومظاهرات العام 1952ضد إعلان الحكومة عن نيتها عقد حلف بغداد الذي كان يضم كل من العراق وتركيا إيران وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، ومظاهرات العام 1956 ضد العدوان الثلاثي على مصر. كان الحرم الجامعي حرما آمنا لم تتجرأ القوات الأمنية إقتحامه في أي وقت من الأوقات.
5. العهد الجمهوري الأول من العام 1958 لغاية العام 1968
شهد التعليم في هذه المرحلة توسعا ملحوظا، وفتحت آفاقه لقبول عدد أكبر من الطلبة من مختلف فئات المجتمع، بقي التعليم العالي في العراق أسير التقاليد البالية في طريق الأهداف الضيقة المحددة التي لا تتعدى مجال الحفاظ على التراث وتوسيع المعرفة والثقافة، ولذلك فقد حصر اهتمامه في ضخ المعلومات والمعارف النظرية في أذهان الطلبة بالرغم من محاولات التخطيط للتعليم العالي من المدّة الواقعة بين 1964/1968 من خلال إعمال لجنة تطوير التعليم العالي الجامعي التابعة لمجلس التخطيط للتربية والتنمية الاجتماعية.
6. العهد الجمهوري الثاني من العام 1968 ولغاية العام 2003
شكل النظام السياسي القائم حينذاك لجنة لإعادة النظر في الوضع الجامعي والتخطيط التربوي. وفي عام 1970 أستحدثت لاول مرة في العراق وزارة التعليم العالي والبحث العلمي إذ صدر قانون وزارة التعليم العالي والبحث العلمي رقم ( 132 ) لسنة 1970 وقد عدل قانون الوزارة أكثر من مرة كان أخرها صدور القانون رقم (40) لسنة 1988وتعديلاته اللاحقة.
جاء في إهداف الوزارة إلى أنها تهدف إلى إحداث تغييرات كمية ونوعية في الحركة العلمية والتقنية والثقافية، وتوجيه المؤسسات التعلمية والبحثية لتكون مترجمة لأهداف النظام السياسي القائم. بما يحقق التفاعل المستمر بين الفكر والممارسة باتجاه تحقيق الاصالة والرصانة العلمية والتفاعل مع التجارب والخبرات الإنسانية بالشكل الذي يأخذ بنظر الاعتبار خصوصية المجتمع وتجربته وتراثه الحضاري المتميز وصولا إلى بناء أجيال جديدة متسلحة بالعلم والمعرفة ومتشربة بالمبادئ والقيم السامية ومؤمنة بأهداف الأمة العربية وتاريخها الحضاري ودورها الإنساني، ولتكون قوة فعالة ومؤثرة في المجتمع وقادرة على تلبية احتياجات خطط التنمية في جميع فروع المعرفة الإنسانية ومتطلبات تطوير المجتمع.
كما تهدف الوزارة إلى تطوير العلاقات العلمية والثقافية والفنية مع الأقطار العربية بهدف تحقيق الانسجام والتكامل في مجالات العلم والمعرفة وصولاً إلى تحقيق الوحدة الثقافية، وتوسيع وتوثيق أواصر التعاون في هذه المجالات مع الدول والمؤسسات العلمية المختلفة في جميع أنحاء العالم.
كما حددت الوزارة في العام الدراسي 1995/1996 اهدافها العلمية بصورة اكثر وضوحا ودقة كما ياتي:
- ترسيخ العلم منهجا ومحتوى، فكرا وتطبيقا، والاخذ باسلوب التفكير العلمي واستخدامه في معالجة القضايا والمشكلات في تطوير المعرفة العلمية الحديثة وتنمية الابداع.
- تقدير جذور العلم الحديث في الحضارات القديمة في الوطن العربي، وفي الحضارة العربية الاسلامية خاصة وزيادة هذه الحضارة في اعتماد منهج التفكير العلمي في الملاحظة والتجريب.
- متابعة الثورة العلمية المعاصرة، استيعابا لمنجزاتها، ومشاركة في اعمالها ودعم البحث العلمي في العراق وتوجيهه لمواجهة مشكلات العراق وتوفير المستلزمات والمناخ السليم لممارسته، وتوثيق صلاته بالتربية والتعليم اخذا وعطاء.
- تقدير العلماء والباحثين والعاملين في الجامعات ومؤسسات البحث العلمي ورعايتهم بما يمكنهم من تحقيق رسالتهم في استتباب العلم وتطويره في اطار من البناء العلمي والمعرفي والقيمي.
- ارساء اسس التقنية الحديثة، تنمية للكفايات البشرية، وتوفيرا للمستلزمات المالية والتنظيمية وتكيفا لخصائص البناء وحاجات المجتمع، ودعما لأساليب الانتاج في الزراعة والصناعة والتجارة والخدمات.
شهدت هذه المرحلة توسعا كبير في التعليم العالي كما ونوعا، حيث إنتشرت المعاهد والكليات والجامعات في جميع ربوع العراق، مع توجه واضح لوأد الحريات في الوسط الجامعي، وغلقها لصالح فكر حزب السلطة الحاكمة حصرا.
7. مرحلة ما بعد غزو العراق وإحتلاله:
شهدت معظم جامعات العراق في أعقاب غزو العراق وإحتلاله عام 2003 ، أعمال حرق ونهب وتخريب واسعة على مرأى ومسمع قوات الغزو دون أن تحرك ساكنا، حيث يشير تقرير رئيس معهد القيادة الدولي التابع للأمم المتحدة الصادر بتاريخ 27 نيسان 2005، أنه منذ بدء الحرب عام 2003، تعرض نحو(84 %) من مؤسسات التعليم العالي العراقية إلي الحرق أو النهب أو التدمير. تشير إحصاءات وزارة التعليم العالي والبحث العلمي إلى أن عدد الجامعات الحكومية قد بلغ (35) جامعة موزعة في جميع أرجاء العراق، عدا جامعات إقليم كردستان البلغ عددها (25) جامعة، (14 ) منها جامعة رسمية.
أنشأت ( 15) جامعة من هذه الجامعات دفعة واحدة في العام 2014، وهو العام الأكثر عنفا وإضطرابا في تاريخ العراق، شهد فيه سقوط محافظة الموصل وقرابة ثلث الأراضي العراقية بأيدي الجماعات الإرهابية المسلحة، فضلا عن الخلافات الحادة بين الفرقاء المشاركين في الحكومة العراقية لدرجة تعذر معها إقرار موازنة الحكومة المالية للعام المذكور، وإزدادت الأمور سوءا في العام 2015 بالهبوط الحاد بأسعار النفط المغذي الرئيس لموازنة الدولة العراقية.
مما يعكس تخبط سياسات وزارة التعليم العالي وإفتقارها إلى الرؤية الصحيحة لمتطلبات إستحداث الجامعات في ضوء الإمكانات المادية والبشرية والجدوى والإحتياجات.
كما أدى النشاط المتزايد للحركات السياسية في الوسط الجامعي الى تحويل الجامعات العراقية الى بؤرة صراع حاد بين أشكال مختلفة من التصعيد الحزبي والطائفي بعدما نقلت الأحزاب السياسية صراعاتها الى داخل الحرم الجامعي، مما نجم عنها أعمال قتل وإضطهاد وتشريد لمئات التدريسين وآلاف الطلبة.
لعل أخطر ما يواجه التعليم العالي حاليا، إفتقارالعراق إلى الفلسفة التعليمية التي يمكن أن تنبثق منها الخطط العلمية لتحديد حاجاته من الكوادر والقوى العاملة التقنية والمهنية في التخصصات المختلفة التي يحتاجها سوق العمل، مما نجم عنه توسع عشوائي بإستحداث الجامعات لتسهم بتخريج كوادر يصعب الإستفادة من مؤهلاتها، هذا إذا إفترضنا أنها مؤهلا علميا أصلا، وهو أمر يتطلب وقفة مجتمعية جادة لإنقاذ التعليم العالي من محنته الراهنة ليستعيد عافيته تعليما جامعيا راقيا يلبي حاجات العراق وإعادة إعماره، وهذا يتطلب أولا وقبل كل شيء تطهيره من العناصر الفاسدة والمفسدة التي طرأت على الوسط الجامعي، ذلك أن التعليم العالي ولا شيء سواه يمكن أن يفضي لنهضة حقيقية.